تركيا والاتحاد الأوربي مصالحة أم فراق؟!

العداء جعل عامة الأتراك موقنين بوجود أصابع خفية لتلك الدول الأوربية في محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها بلادهم سنة 2016.

حديث الحكومة والنخب التركية عن بدء مرحلة الجمهورية الثانية، وما يقتضيه ذلك من تغييرات وتعديلات في الرؤى والتوجهات السياسية والخطط المستقبلية، ألقى بظلاله على علاقات تركيا مع الاتحاد الأوربي، وفتح النقاش مجددا حول مدى جدية أنقرة حاليا في الانضمام فعليا إلى تلك المنظومة التي أصبحت تعاني من مشاكل مستعصية وانهيار داخلي، وأظهر عدد من عواصمها عداء شديدا لحزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان، ورفضا لسياساته الداخلية والخارجية.

استعلاء ومماطلة

 الإعلان عن  تطبيع العلاقات بين أنقرة وبروكسل، وقيام ألمانيا برفع عقوبات اقتصادية كانت قد فرضتها سابقا على تركيا، لا ينفي أن علاقات الأخيرة مع الاتحاد الأوربي لا يزال يشوبها الكثير من علامات الاستفهام حول الأسباب الحقيقية للتعامل معها باستعلاء والمماطلة بشأن قبول عضويتها الكاملة في المنظومة الأوربية، وتكرار القادة الأوربيين لتصريحاتهم الخاصة بإمكانية منح أنقرة وضعا مميزا داخل الاتحاد عوضا عن العضوية الكاملة، وهو ما جعل علاقة الطرفين تتأرجح بين الجمود حينا والتدهور أحيانا أخرى نتيجة المشاعر التي يكنها كل طرف للآخر ، والتي ازدادت حدة خلال العقد الأخير نتيجة عوامل متباينة .

   كراهية متبادلة

فالدول الأوربية أظهرت الكثير من المشاعر السلبية، وصلت إلى حد الكراهية والتصرف بعدائية تجاه كل ماله علاقة بالدولة التركية، إذ تبنت تلك الدول سياسة الرفض المطلق للسياسات التركية عامة، فداخليا أدان الاتحاد الأوربي الخطوات التي اتخذتها الحكومة التركية في إطار محاربتها للإرهاب، معتبرا تلك الخطوات تراجعا خطيرا في ملفي الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون النظر بعين الاعتبار للمخاطر التي تحيق بتركيا وتهدد الأمن والسلم الاجتماعي بها.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فترى الدول الأوربية أن لدى النخبة السياسة التركية الحاكمة دوافع خفية غير معلنة وراء سعيها لتحسين علاقات بلادها بجيرانها سياسيا واقتصاديا، ومراجعة مصالحها الوطنية اعتمادا على مبدأ المصالح المشتركة كأساس يحُكم تلك العلاقات، وتغيير بوصلة اهتماماتها وتوجيه تحالفاتها الدولية إلى البلقان والشرق الاوسط والقوقاز ، مؤكدين أن المسؤولين الأتراك تحركهم رغبة جامحة لتأكيد هوية بلادهم الإسلامية، واستعادة كل ماله علاقة بتاريخ تلك المرحلة، في إطار بحثهم عن هوية جديدة وموقع جيوسياسي جديد ، مبتعدين بذلك عن التوجهات الأوربية، ونهجها الذى سارت عليه تركيا لسنوات طويلة، مما يعني من وجهة نظرهم استغناء تلك النخبة عن عضوية الاتحاد الأوربي الذى لديه الكثير من المخاوف جراء هذا التوجه التركي الجديد.

   المد الإسلامي

ورغم قِدم الحديث عن كون الثقافة الإسلامية في المجتمع التركي لا تتوافق والقيم الأوربية عامة، وأنها أحد أهم الأسباب التي تعيق عملية انضمام تركيا للمنظومة الأوربية، وهو ما عبر عنه صراحة العديد من زعماء الاتحاد الأوربي والفاتيكان مرارا وتكرارا، في إطار تبرير رفضهم لعضوية تركيا بالاتحاد الأوربي، التي تعني بالنسبة لهم اجتياح 80 مليون مسلم بلدان الاتحاد الأوربي، الأمر الذى من شأنه تسريع وتيرة تغيّر الهوية الأوربية، وزعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في الدول الأوربية، بشكل يُسهّل سيطرة تركيا على المؤسسات الأوربية، إلى جانب اتهاماتهم لتركيا بأنها دولة لا تحترم القانون، والديموقراطية وحقوق الأقليات بها، ولديها مشاكل مستعصية مع بعض الدول الأوربية وبخاصة اليونان حول المسألة القبرصية.

كلها أمور تعرقل قبول عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوربي إلا أن عودة تلك المبررات للظهور بقوة الآن يعني أن تلك المخاوف بدأت تتحول إلى حقيقية مع تنامي ظاهرة المد الإسلامي في تركيا، والتي يراها الأوربيون تشكل تهديدا للكيان الأوربي وزعزعة هويته، في ظل المشاكل المتعددة التي يواجهها هذا الكيان على صعيدي الدفاع والسياسة الخارجية، فضلا عن مشاكل الأعضاء الجدد.
ونتيجة لذلك، فقد الاتحاد أهميته بالنسبة للعديد من الدول الأوربية العريقة، حيث قرر البريطانيون الانسحاب منه، لتبدأ دول أخرى بالتفكير جديا في السير على نهجهم.

هذا إلى جانب الصعوبات التي يواجهها في حل المشاكل المتفشية داخليا وخارجيا على حد السواء، مثل استفحال العنصرية، وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، وزيادة المد القومي المتطرف وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا، مع ارتفاع حجم الأصوات المناهضة للعولمة في جميع أنحاء أوربا، ناهيك عن ظهور جيل جديد من السياسيين الأوربيين الذين لا يؤمنون بوحدة الاتحاد الأوربي ولا يسعون بالتالي للدفاع عن هذا المبدأ. كما ينأى بعض أعضاء الاتحاد الأوربي بأنفسهم عن تحمل أعباء ومشاكل الآخرين.
فعلى سبيل المثال تعاني دول جنوب الاتحاد الأوربي من مشاكل اقتصادية كثيرة، وتكافح لحل مشاكل تدفق اللاجئين إلى أراضيها، بينما لا تعاني دول الشمال من هذه المشاكل، لكنها غير معنية ولا مستعدة لإدراج هذه النوعية من المشاكل ضمن إطار سياساتها الداخلية.

   تحولات مذهلة

هذه المشاكل المتفاقمة تزامنت مع التحولات الكثيرة المذهلة التي شهدتها تركيا خلال السنوات الأخيرة ، تلك التحولات التي أخرجتها من بوتقة الدول الضعيفة، ذات التبعية الاقتصادية  إلى مصاف الدول القوية سياسيا، المستقرة اقتصاديا، ما ساهم في تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية، وتنويع مصادرها العسكرية والاقتصادية ومصادر الطاقة، إلى جانب تفاعلها مع مشاكل الدول الإسلامية والعربية، والقيام بدور فاعل في كثير من القضايا الإقليمية والعربية كالقضية الفلسطينية، والأزمة السورية، والملف النووي الإيراني، وهو ما أزعج الاتحاد الأوربي كثيرا، ودفعه لخلع رداء الديمقراطية والتعددية، والقيام بدعم العناصر المناهضة للديمقراطية واحتضان الجماعات الإرهابية ، وفتح مؤسساته ومنابره لكافة المنظمات التي تصنفها أنقرة كتنظيمات إرهابية، الأمر الذى أصبح يهدد الأمن القومي التركي ويتعارض مع القيم الديمقراطية لدول الاتحاد الأوربي .

حجج واهية 

وهو ما تدركه النخب السياسية والمثقفين الاتراك ، الذين يؤكدون أن حالة العداء الأوربية تجاههم لا علاقة لها بهويتهم الإسلامية –التي تتحجج بها أوربا-  وإنما مرجعها الأساسي هو الخوف من عملية التطور المتسارعة التي تمر بها بلادهم حاليا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية ، وقدرتها على تخطي مشاكلها وحل أزماتها دون مساعدة، ونجاحها في فرض نفسها كقوة إقليمية فاعلة على الساحة الدولية ، في وقت تعاني فيه أوربا من مشاكل عديدة ، أضعفت قدرتها على التعاطي بإيجابية مع التغييرات العالمية، الأمر الذى دفع عددا لا يستهان به من العواصم الأوربية للإعلان صراحة عن عدائهم لتركيا ، وتوجيه الانتقادات اللاذعة لقاداتها ونهجهم السياسي في كل مناسبة تسنح لهم .
ذلك العداء جعل عامة الأتراك موقنين بوجود أصابع خفية لتلك الدول الأوربية في محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها بلادهم سنة 2016، قياسا بردود الفعل التي تزامنت مع تلك المحاولة، وزيادة شكوكهم حول نوايا أوربا تجاههم، ومدى قدرتها على الالتزام بمبادئ الديمقراطية والمصداقية التي تتشدق بها نهارا وليلا في تعاملاتها مع القضايا التي تكون تركيا طرفا فيها، والمتعلقة بالتحديات الأمنية والتهديدات الإرهابية سواء داخل حدودها أو خارجها.

علاقة واقعية

هذا التباين في المصالح، وفي شكل الأوضاع الداخلية، وقوة العلاقات الخارجية، واختلاف موازين القوى بين الجانبين، التي أصبحت تميل لصالح تركيا، هى الأساس الذي تنطلق منه مخاوف الدول الأوربية، التي يبدو أنها غير مستعدة بعد لإنشاء علاقات صحية متوازنة وبناءة مع تركيا الجديدة، التي باتت ندا قويا وليست تابعا. ورغم أن الجانبين (الاتحاد الأوربي وتركيا) يدركان أن احتمال عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد بات أمرا صعب المنال، في ظل تلك المعطيات، إلا أنه وفق مبدأ المصالح المشتركة الذي تنتهجه تركيا، واحتياج الاتحاد الأوربي لها في العديد من الملفات السياسية والأمنية والدفاعية، بات من الضروري البحث عن شكل جديد لتلك العلاقة، يُراعي مصالح الطرفين ويقوم على أساس واقعي، والبدء في اتخاذ خطوات إيجابية تعيد ثقة كل طرف في نوايا الطرف الاخر، وتحترم خياراته، وتتفهم أولوياته. 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه