تركيا وإيران صفحة جديدة!

إن هناك تعاونا نشطا صار يميز العلاقات التركية – الإيرانية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وعسكريا، صحيح أنه لن يفضي إلى تحالف دائم بينهما، لكنه سينعكس من دون شك على مجمل قضايا المنطقة

“رب ضارة نافعة” مقولة يمكن ان تُلخص عمليًا مسألة تطور العلاقات بين تركيا وإيران، والتي اتسمت على مدى مراحل تاريخية متعاقبة بالتنافس والتناحر، والصراع لبسط النفوذ الاقليمي، والقيام بدور قيادي في مناطق الخليج وأسيا الوسطى والمشرق العربي.

ورغم الخلافات الأيديولوجية العميقة التي تعيق إمكانية إقامة تحالف دائم بينهما، وصعوبة تطابق وجهات نظريهما تجاه قضايا المنطقة   المختلفة،فإنه مع كل أزمة تحدث تجد الدولتان أن المخاطر المحيطة بهما، ومصالحهما الخاصة تدفعهما دفعا لتطوير علاقتهما والارتقاء بها، لدرء عواقب تلك المخاطر المحتملة التي يمكن أن يتعرضا لها معا، ولتحقيق الاهداف التي تطمح إليها كل واحدة منهما.

ساهم في ذلك التقارب  السياسة التي تبناها حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم منذ وصوله إلى سدة الحكم، والتي اعتمد فيها مبدأ المهادنة والتصالح، ومحاولة التقارب مع دول المنطقة والتفاعل بإيجابية تجاه مشاكلها، مع القيام بدور الوسيط بهدف إنهاء النزاعات وتصفير المشاكل، لإعطاء فرصة للانطلاق نحو البناء والتنمية، وهى السياسة التي توافقت مع وجهة نظر الساسة الإيرانيين التي تُفضل وجود علاقات متوازنة مع تركيا، تتجاوز من خلالها الخلافات التاريخية والأيديولوجية بينهما، لصالح ضمان وجود حليف قوى يعد همزة الوصل الوحيدة بينها وبين الغرب .

ومن هنا كان التطور السريع الذي شهده ملف العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إذ وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 21 مليار دولار ، وتأسست أكثر من 100 شركة تركية على الأراضي الإيرانية، فيما ازداد حجم التواجد الايراني في تركيا تجاريا وسياحيا، إلى جانب توقيع اتفاقيات مشتركة في مجالات الطاقة والاستثمار والسياحة بما قيمته 10 مليارات دولار خلال زيارة الرئيس التركي الأخيرة لطهران، والاتفاق على قيام إيران بإمداد تركيا بالنفط مقابل قيام الاخيرة بإعادة تأهيل سكة حديد خط إرماق – كرابوك، الذي تقدر تكلفته بـ 80 مليون يورو، ناهيك عن الاتفاق الذي سبق وأن وقعته الدولتان بالتعاون مع البرازيل عام 2010 لتبادل اليورانيوم .

 العقوبات الامريكية

مثلت العقوبات الاقتصادية الجديدة التي فرضتها مؤخرا الولايات المتحدة الأمريكية على كل من تركيا وإيران، خطوة مهمة جديدة على طريق ترسيخ العلاقات الاقتصادية بينهما، إذ أعلن رجب طيب أردوغان مؤخرا في رده على موقفه من العقوبات على إيران، أن لبلاده شركاء استراتيجيين، وقطع العلاقات معهم يتعارض مع مفهوم استقلال القرار السياسي الذي تتبناه تركيا. معربا عن أسفه لمحاولة الزج ببلاده في ذلك الصراع الدائر بين إدارات صنع القرار الامريكي. مضيفا أن “قرار فرض العقوبات على إيران هو قرار أمريكي وليس أُمميا، ويضر بمصالح بلاده مع جارة لها ساندتها في الكثير من الموافق الصعبة “.

وأوضحت وزارة الخارجية التركية في بيان لها أهمية الشراكة الاقتصادية والتجارية القائمة بين تركيا وإيران، التي وصفتها بالشريك الاقتصادي المهم لأنقرة في المنطقة، وهو البيان الذي صدر في أعقاب محادثات لوفد أمريكي زار أنقرة قبيل صدور قرار فرض العقوبات على طهران. من جانبه أكد وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو معارضة بلاده للعقوبات، موضحا أن موقف واشنطن المتمثل باتخاذ قرارا أحاديا، ومطالبة بقية دول العالم بالامتثال له يعد أمرا غير صائب.

فيما أعلنت طهران تضامنها المطلق مع أنقرة ضد العقوبات الأمريكية، إذ انتقد المتحدث باسم الخارجة الإيرانية بهرام قاسمي، المواقف والسياسات التي تتبناها إدارة ترمب ضد تركيا، معربا عن استعداد بلاده لتقديم كل أشكال التضامن والدعم لأنقرة، ومشددا على أن إرادة الشعوب لا يمكن أن تتغير بالقمع والتهديد، بينما عاب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على واشنطن التسبب بصعوبات اقتصادية لحليفتها في حلف شمال الأطلسي. وأضاف: “يجب على الولايات المتحدة إعادة تأهيل نفسها من الإدمان على العقوبات والترهيب وإلا فسيتوحد العالم بأسره فيما يتجاوز الإدانات الشفهية لإجبارها على ذلك”.

 لتتحول مسألة العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن على كل من أنقرة وطهران لأسباب مختلفة بهدف عزلهما عن المجتمع الدولي، لدافع قوي لتطوير علاقتهما الاقتصادية واستفادة كل واحدة منهما بإمكانيات وعلاقات الاخرى، والعمل سويا من أجل أن تصبح قمة العالم مسطحة تستوعب أكثر من دولة كبرى، تحقيقا لمقولة الرئيس التركي” العالم أكثر من خمسة “.                                                                      

   تبادل المنفعة

تأسيس علاقات اقتصادية قوية، يعد البنية الاساسية لإقامة علاقات سياسية واستراتيجية بعيدة المدى بما يخدم المصالح الخاصة لكل دولة على حدة، وهو ما تدركه انقرة وطهران جيدا، وفي هذا الاطار كان الموقف الإيراني الداعم والمتعاطف مع الدولة التركية خلال محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا في يوليو/تموز 2016 ، الذي ترك اثرا نفسيا بالغا على أردوغان والنخبة السياسية الحاكمة وكبار صناع القرار في أنقرة، خاصة وأنه جاء مناقضا للموقفين الأمريكي والأوربي اللذين اتسما بالفتور وعدم تقدير الامور بصورة صائبة، والاكتفاء بالتأكيد على ضرورة عدم إساءة استخدام سلطات الطوارئ في مواجهة المنقلبين، الأمر الذى ساهم في رفع أسهم إيران لدي تركيا، التي وجدت أن لها حليفا حقيقيا يقف إلى جوارها وقت الحاجة رغم ما بينهما من خلافات واختلافات .

     رد الجميل

أنقرة من جانبها، وفي إطار رد الجميل لطهران، أدلى سفيرها لدى إيران رضا هاكان تكين، بتصريح قال فيه: ” إن حكومة بلاده ترفض الاعتراف بأن الجزر الثلاث المتنازع عليها بين الإمارات وإيران (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى) تعود للإمارات “، مؤكدا إيرانية الجزر ودعم بلاده لهذا التوجه.

وهو الموقف الذي اعتبره كثير من المراقبين ضربة قاصمة للعلاقات التركية – الخليجية، في ظل التوتر القائم فعليا بينهما بسبب دعم انقرة لفصائل المعارضة التي استجارت بها من بطش النخب السياسية الحاكمة بدول الربيع العربي، ووقوفها إلى جانب قطر في مواجهة الحصار المفروض عليها من جانب الإمارات والسعودية. 

موقف طهران الداعم لأردوغان أثناء أزمة الانقلاب الفاشل، ودعم أنقرة لإيرانية الجزر المتنازع عليها مع الامارات، إلى جانب الارتفاع المطرد في حجم التعاون الاقتصادي بينهما، ساهم بصورة إيجابية في تقريب وجهات نظر البلدين الخاصة بالعديد من القضايا الامنية والعسكرية والسياسية التي كانت دوما محل خلافات، وساحة صراعات بين الجارتين.

 فعلى الجانب الأمني؛ تطابقت وجهات نظريهما حول المخاطر التي يمثلها استمرار حزب العمال الكردستاني ونظيره الإيراني (حزب بيجالك ) في تواجده بالمناطق الحدودية، وشن عمليات عسكرية ضد البلدين، إذ اتفق الجانبان على أهمية التنسيق الامني والتعاون العسكري في هذا المجال خاصة في ظل امتداد الحدود المشتركة بينهما لحوالي 500 كيلومتر مربع، الأمر الذى يتطلب منهما توحيد جهودهما والعمل سويا من أجل محاصرة الأكراد؛ والتصدي لمحاولاتهم الرامية لإقامة كردستان الكبرى، التي تشمل أراضي شاسعة من تركيا وإيران، وفق الخرائط الكردية المتداولة.

الأزمة السورية

وعلى صعيد الأزمة السورية، ساحة التناقض الأبرز بين الدولتين فيما مضى، أوضحت التطورات الخاصة، أن سقوط بشار الاسد وتفكيك الدولة السورية لن يكون في صالح الأمن القومي التركي والإيراني، وإنما سيصب في صالح الأكراد السوريين عامة؛ وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي خاصة، الذى لديه علاقات قوية مع كل من حزب العمال الكردستاني التركي، وحزب بيجالك الإيراني، إضافة إلى علاقاته الحميمة مع الولايات المتحدة الامريكية التي تدعمه عسكريا ولوجستيا، الأمر الذى أثار هواجس أنقرة وطهران من استمرار خلافاتهما حول الوضع السوري، وتأثيرات ذلك السلبية على أمنهما القومي .

لذلك تصدت الدولتان للمحاولات  الكردية التي بُذلت من أجل انفصال المناطق الكردية عن كيان الدولة السورية ، بعد أن أدركتا أن أي شكل من أشكال الاستقلال الكردي السوري سيكون بمثابة لعنة ستصيبهما معا، ومن هنا خففت طهران من حدة تصريحاتها بشأن العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري، فيما بدأ تحول نوعي في الخطاب السياسي التركي حول مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما بدا واضحا في التعهد الذي ألزمت أنقرة نفسها به خلال استقبالها لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أواخر العام الماضي والذى تعهدت فيه بالتعاون مع طهران لإيجاد حل للنزاع في سوريا، والاتفاق حول أهمية وحدة الأراضي السورية، إلى جانب التصريحات التي أدلى بها يلدريم بن على رئيس البرلمان التركي قائلا : ” أثق أننا سنعيد علاقتنا مع سوريا لوضعها الطبيعي، نحن في حاجة لذلك، وإذا كنا نُطبع علاقتنا مع روسيا وإسرائيل فإننا سنتمكن من فعل ذلك مع سوريا أيضا”.

موقف انقرة الداعم للحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وتخفيف حدة انتقاداتها لممارسات بشار الاسد السياسية، صب في صالح نهج طهران تجاه الأزمة السورية، وزاد من مساحة التقارب السياسي بين الجارتين، في ملف كان الأكثر توترا بينهما خلال السنوات الماضية، رغم أن ذلك لا يعني تخلي أنقرة نهائيا عن دعم فصائل المعارضة السورية والجيش السوري الحر المرتبط بها، وإن كان استمرار ذلك التحالف سيشهد نوعا من الاختلاف حول الأهداف المرجوة منه والقواعد المنظمة له، خاصة في ظل التنسيق والتقارب بين تركيا وإيران وحليفتهما روسيا، الأمر الذى يفتح آفاقا جديدة ومسارات متعددة لحل الأزمة السورية.  

   قوتان إقليميتان

خلاصة القول أن هناك تعاونا نشطا صار يميز العلاقات التركية – الإيرانية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وعسكريا، صحيح أنه لن يفضي إلى تحالف دائم بينهما، لكنه  سينعكس من دون شك على مجمل قضايا المنطقة، والحلول المطروحة لأزماتها، التي ستنطلق من وجهة نظر تركية – إيرانية خالصة، تعتمد في تحركاتها على مدى قدرة  كل طرف منهما في استيعاب وتفهم مصالح الطرف الاخر، عبر زيادة الثقة المتبادلة بينهما، في ظل غياب كامل للعرب الذين كبلوا أنفسهم بالتزامات، ودخلوا في علاقات وتحالفات، تخالف في مُجملها أيديولوجيتهم السابقة، واستراتيجيتهم في التعامل سياسيا واقتصاديا، ورؤية شعوبهم لمستقبل المنطقة، ما أدى إلى انقسام بعضهم على بعض، الامر الذى أتاح الفرصة كاملة أمام صعود تركيا وإيران قوتين محوريتين قادرتين على إخراج الشرق الأوسط من مستنقع الفوضى التي بات يرزح تحت وطأتها، سواء قبِل العرب بذلك أو رفضوه .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه