تركيا.. صفر حفتر السادس!

 

ما الذي أخاف الجنرال حفتر حتى فزع وأخذ يهدر بشعارات القومية وعبارات التهديد والوعيد وهتافات الجهاد والنفير؟، وما أثر المتغير الجديد بدخول القوات التركية على خريطة الصراع في ليبيا؟ وكيف سيسهم في إيجاد أفق للحل وإقرار السلام في بلد يعاني منذ سنوات من حرب تسعرها كل حين تدخلات إقليمية وحسابات لا تبدو دقيقة؟ وكيف ستتعامل مع هذا الواقع أطراف اعتادت التأجيج والتهييج في أكثر من ساحة عربية؟

جهادٌ ونفيرٌ وساعة صفر شبهُ خامسة.. مُهدِّدًا ومتوعدا خرج اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الثالث من يناير/كانون الثاني الجاري ببدلة عسكرية غير مألوفة، في خطاب مشحون بشيء من التعتعة وكثير من الوعيد.

عزف حفتر على وتر التحرير والقومية، وخلط المصطلحات، والغايةُ عنده تبرر فوضى لغته، فساعةً يعِد بالفتح المبين، وتارة يصدح باسم العروبة، ومرة يهتف بالجهاد والنفير، ثم يهيب بشعوب الأمة العربية وقادتها إلى مناصرته، ناهيك عن نصه المفعم بالشتائم والنعوت، كأنه استنفد أسلحته، وهو يرى اللقمة تكاد تنتزع من بين أسنانه، فما الذي هلع له اللواء المتقاعد؟!

يخطب قائد الهجوم على طرابلس بعد يوم من إعلان البرلمان التركي إقراره طلبا بتفويض الحكومة إرسال قوات إلى ليبيا، وفي أعقاب تسعة أشهر من الفشل في الدخول إلى العاصمة، الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، يبدو توقيت المصادقة موجعا له، بيد أن خطوة أنقرة القادمة هي الأكثر وجعا، وكلمة السر “مذكرتا الـ 27 نوفمبر”، وسنذكر بعد فقرات محتواهما الأبرز.

القوات التركية “وصلت”

بدأت تركيا نشر قواتها في ليبيا تدريجيا، بعد ثلاثة أيام من إقرار البرلمان إرسالها، بغيه ضمان استقرار حكومة الوفاق، كما ستعمد إلى إقامة مركز عمليات هناك بقيادة جنرال برتبة فريق من جيش تركيا، وفق تصريحات رئيسها رجب طيب أردوغان لقناة سي إن إن التركية، مضيفا أن هدف بلاده ليس القتال، وإنما دعم الحكومة الشرعية وتجنب حدوث مأساة إنسانية.

اهتمام من خارج النص

فجأة، بدت طرابلس مهمة لأوربا، ودون سابق إنذار يخطر لوزراء أربع من كبريات دولها زيارة العاصمة، وهي قابعة تحت متارس الحرب، وموعودة بقصف غير متوقع من حين إلى آخر، فأي ملف جدير بالمجازفة في نظر زعماء القارة العجوز، ولماذا لا يتوجهون إلى حفتر مادام هو منشأ الأزمة، وكيف تتجه بوصلة التسوية إلى المُعتدَى عليه بدل المعتدي؟

في 27 ديسمبر/كانون الأول 2019 يتصل وزير خارجية أوربا بنظيره في حكومة الوفاق محمد سيالة، ويعلمه باعتزامه زيارة طرابلس، في السابع من يناير الجاري، صحبة وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بيد أن طرابلس منشغلة اليوم عن القارة الجارة بهمٍّ أكبر، ولذا أبلغت الوفد قبل الموعد بيوم بتأجيل الزيارة، فاستضافت بروكسل لقاء الوزراء وحدهم، والمخرجات دليل الغايات، وسنتطرق لها لاحقا.

مذكرتا نوفمبر: صفر سادس

أعلن حفتر ساعة الصفر نحو خمس مرات، ثم جاءت أنقرة ووقّعت مع طرابلس مذكرتي تفاهم، أقعدت بهما مساعي اللواء المتقاعد، وضربت جهوده وحلفاءه في صفر، وإن شئت فسمّه الصفر السادس.

وتنص إحدى المذكرتين الموقعتين في الـ 27 من الشهر المذكور على “تحديد مناطق السيادة البحرية والصلاحيات المنبثقة من القوانين الدولية”، وتتعلق الأخرى بالتعاون الأمني والعسكري، ويشمل مجالات واسعة في القطاعين، وانبثقت عنها بطلب ليبي مذكرة ثالثة لتفويض مدته عام من أجل إرسال قوات لليبيا.

وصادق برلمان تركيا على الأولى في 5 ديسمبر 2019، وكذلك المجلس الرئاسي للوفاق، ودخلت حيز التنفيذ بعد يومين، ثم أقر الطرفان لاحقا في الـ 20 والـ 21 ديسمبر المذكرة الثانية، وبدأ سريانها بعد خمسة أيام، وتلقى لاحقا برلمان تركيا المذكرة الثالثة لتفويض الحكومة إرسال قوات لليبيا، وصوت عليها في الثاني من يناير الجاري، وأقرها بأغلبية 325 مقابل 184 صوتا، و24 ساعة حتى ظهر حفتر بخطابه المذكور.

هلع دولي

تشارك حفتر دول قريبة وبعيدة هلعا مشابها، وصوت بعضها أعلى من الأخرى وأصخب أحيانا، فاليونان اعترضت إلى حدّ طردها سفير ليبيا في 6 ديسمبر الماضي، وقبرص نددت حتى سحبت اعترافها بحكومة طرابلس بـ 28 الشهر الماضي، ومصر على خطاهما، غير أنها ذهبت تفصل في أحقية توقيع جيرانها، ثم تلقت لاحقا ردا مُتعجّبا من خارجية ليبيا، يتساءل حرفيا: “هل المجلس الرئاسي (لحكومة الوفاق) مجلس ليبي أم مصري؟”

 وإسرائيل صدق أو لا تصدق أخذت هي الأخرى تتحدث عن خطر التدخل التركي على السيادة الليبية الوطنية، ويجمع الدول السابقة -عدا مصر- إقصاءهم لأنقرة في اتفاقيات شرق المتوسط. أما إيطاليا فصوت إنكارها بدأ خافتا ثم ارتفع شيئا فشيئا، ليعلن وزير خارجيتها أن المذكرة “غير شرعية” في أكثر من مناسبة الشهر الماضي.

صمتت أوربا مدة وأعلنت في الـ 8 يناير عقب لقاء بروكسل -كما أشرنا- رفضها إرسال تركيا قواتها لليبيا، على لسان مسؤول السياسية الخارجية بالاتحاد بوخست يوريل تصريحا، وتلميحا في بيان مشترك لوزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا، رشح عن تلك المحادثات التي جاءت “في وقت تواجه فيه أوربا والولايات المتحدة خطر التهميش مع اضطلاع تركيا وروسيا بأدوار أكبر في الصراع الدائر في ليبيا”، وفق تقدير دويتشه فيله .

تركيا وروسيا الـ”برلين الموازي”

تحدث أردوغان مرارا باستياء في أعقاب المذكرتين عن المرتزقة الروس، وصرح بأنه سيتصل ببوتين ولن ينتظر حتى يزور موسكو، وفعلا أعلن الكرملين في 11 ديسمبر الماضي اتفاق الرئيسين في مهاتفة على ضرورة وقف إطلاق النار، ثم وافقت أنقرة في منتصف الشهر نفسه على مقترح من بوتين للعمل المشترك على وقف الحرب في ليبيا، وفق تصريح وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بمنتدى الدوحة العالمي.

أسبوعٌ ثم طار وفد تركي إلى موسكو في 23 ديسمبر والتقى بوفد نظير، وتفاوض الجانبان من أجل التسوية في ليبيا وسوريا، وتواصلت محادثاتهما ثلاثة أيام وهي مدة أطول من المتوقع وفق تقدير صحيفة فيدوموستي الروسية كما نقلت عنها رويترز، ثم أعلنت وزارة الخارجية الروسية حينها اتفاق الطرفين على المساهمة في حل سريع للأزمة في البلاد، ومواصلة الاتصالات بشأن القضية الليبية.

وظلت موسكو وواشنطن في دائرة الإعراب عن القلق وتفضيل الحلول السياسية، عقب تصديق البرلمان التركي على إرسال قوات لليبيا، دون اتخاذ موقف فاقع على غرار الدول السابقة، ويكفي أن تعلم أن التطورات الحديثة في المشهد الليبي وبروز تركيا شبه نابعة عن تلك الدولتين، بضوء أخضر ربما أطلقته واشنطن من بعيد مهد طريق مذكرتي أنقرة وطرابلس.

موسكو تقطع إغفاءة واشنطن

أغمضت الولايات المتحدة عينها عن حفتر شهورا، وفتحت الأخرى بكسل على روسيا، وأخذتها إغفاءة على مقاس مصالحها، بين شبه الحليف ومحض الغريم، حتى صحت فجأة على خطر روسي يتنامى بأسرع من توقعاتها.

نعم، استيقظت واشنطن منتصف نوفمبر الماضي، وكادت توبخ حفتر إن لم تفعل، وطالبته بوقف هجومه على العاصمة، وحذرت من “التدخل الروسي ضد إرادة الشعب الليبي” في بيان مشترك مع حكومة الوفاق، عقب حوارات أمنية بين مسؤليها ووزيري خارجية طرابلس وداخليتها، ثم وقعت حادثة إسقاط الطائرة الأمريكية في 21 نوفمبر، وبعد ستة أيام انطلقت تركيا بكل ثقلها نحو التحالف مع حكومة السراج، ووقعت على الصفر السادس لحفتر.

الخلاصة

دخلت علنا تركيا بقواتها مع معسكر حكومة الوفاق، ووصل جنودها لأرض ليبيا، غير أن سياستها ربما سترتكز على الدعم غير المباشر، لصعوبة التعامل الميداني مع بلد غير مجاور أو مستقر، وفي المقابل يقاتل مع حفتر مرتزقة من تشاد والسودان، أعدادهم تقارب الثلاثة آلاف وفق تقرير خبراء الأمم المتحدة في أغسطس، ومرتزقة من روسيا تضاعفت أعدادهم قرابة الست مرات، وفق مسؤول سابق بالخارجية الأمريكية، ناهيك عن الدعم الذي يتلقاه من الإمارات المتهمة أخيرة بقتل طيرانها طلاب الكلية العسكرية في طرابلس، إلى جانب مصر والإردن والسعودية وفرنسا، طيلة الأشهر الماضية منذ بدئه الهجوم.

وانتزعت مدينة غريان الاستراتيجية من حفتر في يونيو، وانترع الأخير في السابع من يناير الجاري مدينة سرت، كما وصلت قوات الوفاق لترهونة الموالية للواء المتقاعد وانسحبت، وأما سائر المحاور فشبة ثابتة مع تقدمات جزئية لقوات حفتر، دون أن يتمكنوا من السيطرة على طرابلس مدة تسعة أشهر، وفي أقل تقدير فإن أنقرة ستلغي أوهام الحسم في مخيلة حفتر، وستمنحه رفقة المستثمرين في مشروعه صفرا يضمه إلى بقية أصفاره.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه