تدويل قضية “خاشقجي” في مواجهة المراوغات “السعودية”

 

لم نكن ننتظر من مؤتمر النيابة العامة السعودية الخاص بإعلان قائمة الاتهام في قضية مقتل خاشقجي أن يضع النقاط على الحروف، ويعمل على تحقيق العدالة المرجوة، لكن في الوقت ذاته لم نتوقع أن يمثل فصلا جديدا هابطا من فصول المراوغة السعودية السيئة التي بدأت مع الساعات الأولى التي أعقبت الإعلان عن اختفاء جمال خاشقجي.

فالمؤتمر الصحفي تحول إلى مسرحية هزلية؛ فممثل النيابة يعود للحديث عن “متعاون محلي” استلم الجثة من أحد المتهمين بعد تقطيعها داخل القنصلية، رغم أن ذات الرواية نفاها النائب السعودي، سعود المعجب، من قبل.

ثم لا يعطي أي معلومات عن هذا المتعاون سوى أنهم رسموا صورة تقريبية له وكأن أحد فريق الاغتيال استلم الجثة عقب تقطيعها وخرج هائما على وجه في شوارع إسطنبول حتى عثر على “ابن حلال” وافق على أخذ الجثة المقطعة منه تأكيدا على الروابط العميقة التي تربط الشعبين السعودي والتركي!

رواية النيابة الجديدة عادت كذلك للحديث بذات المفردات المراوغة (محاولة استعادة خاشقجي.. حالة شجار.. التصرف الفردي لقائد الفريق وقراره بقتل خاشقجي.. إلخ)

المؤتمر “الهابط” جاء بعد يوم واحد من دعوة وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، إلى تدويل مقتل خاشقجي حيث قال أمام البرلمان التركي: إن “إجراء تحقيق في مقتل خاشقجي بات شرطاً” مجددا التأكيد على أن أنقرة ستفعل “كل ما يلزم من أجل توضيح ملابسات القتل.” ومشيرا إلى أنه تم إطلاع “كل من أبدى رغبته في رؤية الدليل”

المطالبة التركية بإجراء تحقيق دولي تمثل فصلا مهما – وربما منتظرا- من فصول القضية التي شهدت مؤخرا محاولات مستميتة من بعض الدوائر الأوربية والأمريكية لحرف مسار التحقيقات، وإنقاذ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان بصفة خاصة وربما الاكتفاء بمحاكمة “صورية” لبعض المشتبه بهم ومن ثم إغلاق ملف القضية بالضبة والمفتاح.

إذ فاجأ وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الرأي العام، بزعمه أنه لم يستمع إلى أي تسجيلات تخص مقتل خاشقجي، واتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، بممارسة ما سماه “لعبة سياسية كبيرة”، الأمر الذي استدعى ردا تركيا أكد أن ممثل الاستخبارات الفرنسية استمع إلى التسجيلات، ولفت إلى أن عدم علم وزير الخارجية بها يعود إلى انقطاع التواصل بين المؤسسات الفرنسية، ومن ثم فإن المشكلة تخص فرنسا وليست تركيا وفق ما قالته الرئاسة التركية على لسان رئيس مكتب الاتصال فيها فخر الدين ألتون، لكن الرد الأقوى على لودريان جاء على لسان نظيره التركي، مولود تشاوش أوغلو، الذي وصف تصريحات الوزير الفرنسي خصوصا ما يتعلق منها بأردوغان بـ”الوقاحة الكبيرة”.

العاصفة التركية لم تجد فرنسا من سبيل لاحتوائها سوى الانحناء أمامها، والتأكيد على أن تصريحات لودريان أسيء فهمها وأخرجت من سياقها!!

والمفارقة أن تصريحات لودريان تزامنت مع تصريحات مضادة منفصلة من كل من ألمانيا وكندا، أكدت اطلاع مسؤولين في البلدين على التسجيلات الخاصة بمقتل خاشقجي، بل زادت ألمانيا وقالت إن الأمر تم تحويله إلى البرلمان الألماني لاتخاذ قرار بشأنه.

الدعم الأكبر لابن سلمان جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، الذي سارع بالقول إن التسجيلات لا يمكنها إدانة ولي العهد السعودي،

في وقت أكدت فيه الخارجية الأمريكية أن واشنطن لن تفرض عقوبات على السعودية بسبب الجريمة، لكنها قالت إن العقوبات التي تم فرضها ضد بعض المسؤولين السعوديين لن تنتهي بإلغاء التأشيرات ومنع دخول بعضهم إلى الولايات المتحدة.

وسط تلك التوجهات المتزامنة، دفعت تركيا القضية خطوة إلى الأمام بدعوتها إلى التدويل لكن ما الأسباب وراء ذلك التطور؟ وهل يمكن أن تلقى المطالبة التركية تأييدا دوليا؟ وكيف يمكن تصور عمل المحكمة؟

أسباب لجوء تركيا إلى تدويل القضية

المقاربة التركية في التعامل مع ملف القضية اتخذت مسارا جنائيا في الأيام الأولى، عبر تسريبات محكمة، دفعت الرياض إلى الاعتراف بوقوع الجريمة داخل مقر قنصليتها في إسطنبول، الأمر الذي وفر على تركيا كثير عناء، ما دفعها إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية، حيث طالبت السعودية بالإجابة على عدة أسئلة أهمها أين مكان الجثة؟ ومن الذي منح فريق الاغتيال الأوامر لتنفيذ الجريمة؟ ومن هو المتعاون المحلي الذي تم تسليم الجثة إليه لإخفائها؟ لكنها لم تتلق إجابات من الرياض.

 ثم كانت المرحلة الثالثة مع صدور أول بيان رسمي من مدعي عام إسطنبول، عرفان فيدان، عقب لقائه النائب العام السعودي، سعود المعجب، والذي أكد فيه أن الجثة تم محوها، في الوقت الذي نفى فيه “المعجب” وجود متعاون محلي رغم أن قصة وجود “متعاون” جاءت في وقت سابق على لسان وزير الخارجية، عادل الجبير!

مع هذه التطورات لم يبق سوى سؤال واحد مهم بات على الرياض الإجابة عليه وهو من الذي أعطى الأوامر لفريق الاغتيال؟

هذا السؤال تعلم أنقرة أن السعودية لن تجيب عليه؟ لأنه سيحمل إدانة صريحة لولي العهد محمد بن سلمان، كما أن الولايات المتحدة وأوربا تعلمان يقينا أنه المتهم الأول في القضية، وأنه من المستحيل أن يتم تنفيذ جريمة بهذه الصورة دون أوامر مباشرة من أعلى رأس في الدولة، لكنها اختارت المناورة أمام الرأي العام بادعاء انتظار انتهاء التحقيقات!

في ظل هذه المماطلة ظل أردوغان يضغط بصورة غير مباشرة في اتجاه اتهام محمد بن سلمان، وذلك بتأكيده أن الجريمة نفذت بأمر من رأس السلطة في السعودية، مع تأكيده على براءة الملك سلمان ! فلم يبق إلا ولي عهده المتحكم الأوحد في مؤسسات الدولة والمهيمن على الأجهزة الأمنية.

ورغم أن تركيا منحت الرياض والعواصم الغربية مزيدا من الوقت لاتخاذ القرار السليم والمنتظر، إلا أنها فوجئت بمماطلة وتسويف ومحاولة إدخال القضية في مسارات متعرجة، خصوصا بعدما نشرته وسائل إعلام “إماراتية” من نية الرياض مطالبة أنقرة تسليم قيادات أمنية تركية يشتبه في تعاونهم مع فريق الاغتيال!! أي محاولة يائسة لخلط الأوراق بشدة.

من هنا رأت تركيا إلقاء ملف القضية في “حِجْر” المجتمع الدولي وإرغامه على القيام بدوره في تعقب الجناة ومحاكمتهم بدءا ممن أعطى الأوامر مرورا بفرق التنفيذ المختلفة.

كما تعول أنقرة على نتائج انتخابات الكونغرس الأمريكي وفوز الديمقراطيين بأغلبية مقاعد مجلس النواب وإعلانهم نيتهم فتح ملف خاشقجي والتعاطي الإيجابي مع القضية، في دفع سير التحقيقات خطوة إلى الأمام وعدم السماح بتبريد القضية.

مصير ومستقبل المحكمة الجنائية الخاصة

في وقت سابق أعلن وزير الاستخبارات السعودية الأسبق، تركي الفيصل، أن بلاده لن تقبل بتدويل القضية بزعم أن بلاده لديها قضاء نزيه وعادل!!! وذلك لعلمه أن تحويل ملف القضية إلى محكمة جنائية خاصة ذات بعد دولي لن يقف بقائمة الاتهام على عدد محدود من الأسماء بل سيتعداه إلى أسماء كبيرة وصولا إلى محمد بن سلمان نفسه، لكن الأمر ليس حكرا على أمنيات المسؤولين السعوديين.

وبالنظر إلى المحكمة الدولية التي تم تشكيلها عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في ١٤ فبراير/شباط ٢٠٠٥ فإن تشكيل محكمة مماثلة لنظر اغتيال خاشقجي قد تبدو أسهل من حيث الإجراءات لكنها أعقد بالنظر إلى التوازنات.

فمحكمة الحريري انتظرت أكثر من سنتين ليعلن عن تشكيلها في مايو/أيار ٢٠٠٧ نتيجة عوامل عدة، منها انتظار نتائج التحقيقات التي أجرتها بعثة تقصي الحقائق، إضافة إلى التناقضات اللبنانية الداخلية التي أدت إلى عدم موافقة البرلمان على المصادقة على الاتفاق الذي تم توقيعه بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة لتشكيل المحكمة ما اضطر المنظمة الأممية إلى إصدار قرارها رقم ١٧٥٧ تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

لكن الأمر في تركيا مختلف تماما، من حيث الشكل أو المضمون، فتركيا ستدفع في اتجاه تسريع عمل تلك المحكمة حال تشكيلها، كما أنها قطعت شوطا كبيرا في مجال البحث والتحري وجمع الأدلة إضافة إلى ما تملكه من تسجيلات، ما يعني أن المحكمة قد لا تنتظر طويلا كما انتظرت محكمة الحريري والتي مازالت تنظر القضية حتى اللحظة.

لكن التوازنات الدولية تأكيدا ستختلف هنا، فقضية اغتيال الحريري، توافق المجتمع الدولي على محاكمة الجهة التي تقف وراء العملية لأسباب تخص كل دولة.

أما في اغتيال خاشقجي فإن الأمر قد يختلف بالنظر إلى سطوة المال السعودي من جهة، ومن جهة أخرى لما بات يمثله محمد بن سلمان من قيمة للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، حتى أن البعض ذهب إلى أن التصعيد الإسرائيلي الأخير على غزة كان بناء على طلب من ولي العهد السعودي لتخفيف الضغط عليه ولفت الأنظار عنه.

الدعم الصهيوأمريكي لابن سلمان اتضح جليا في تصريحات ترامب ونتنياهو، والتلكؤ الغربي في اتخاذ مواقف جدية حتى الآن والاكتفاء بإلغاء تأشيرات سفر بعض المشتبه بهم!!

ومن هنا فإن المتوقع- خاصة بعد بيان الادعاء السعودي- أن تضغط تركيا في اتجاه نشر مزيد من التسريبات للصحافة الغربية بصفة خاصة لخلق رأي عام ضاغط على صانع القرار سواء في واشنطن أو العواصم الأوربية، وربما إعلان الادعاء التركي لائحة اتهام رسمية. ومن ثم اتخاذ خطوات عملية لتشكيل المحكمة الدولية الخاصة عبر التعاون مع الأمم المتحدة، في سيناريو سيمثل كابوسا مزعجا للرياض التي مازالت تظن أن المراوغة قد تمنحها فرصة للنجاة.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه