تجربة التعليم في سنغافورة

نور الدين عبد الكريم*
لا تزال قصة نهضة سنغافور جديرة بالاهتمام والتوقف على الكثير من جوانبها. فرئيس وزرائها وباني نهضتها الراحل “لي كوان يو”، بدء مشواره بـجزيرة صغيرة قوامها حوالي مليوني نسمة، فقيرة الموارد، تعاني من الفقر وارتفاع نسبة البطالة. لكنه تمكن من نقلها إلى أحد أقوى نمور الاقتصاد الآسيوي والعالمي، وجعل منها دولة تحتل أحد أعلى عشر مراكز بين أغنى دول العالم، حيث يصل معدل دخل الفرد السنغافوري اليوم حوالي 56 ألف دولار سنوياً، ونسبة البطالة فيها الآن تقل عن 2%.
أدرك كوان يو منذ اليوم الأول أنه لن يتمكن من الحفاظ على تقدم بلاده وتطورها دون إنشاء نظام تعليمي متكامل. فالنظام التعليمي الصحيح كفيل بتوفير جميع أنواع الأيدي العاملة التي تحتاجها البلاد، وبالتعليم تحارَب الأميّة وتقل نسبة البطالة وينحصر الفقر ويتحقق الإكتفاء الذاتي. وبه يمكن المحافظة على النمو والتقدم. 
وللوقوف على حقيقة هذه التجربة التعليمية الناجحة ونتائجها، لا بد من المرور بـمراحلها المتعددة التي مرت فيها.
فيُذكر أن أول ظهور للتعليم في البلاد كان أثناء فترة الاستعمار الانجليزي، فالمستعمر كان بحاجة لاستخدام السكان المحليين كعمال في مصانعه وموانئه التي كان يديرها، وليسهل التخاطب معهم، وجد أنه من الضروري تعليمهم لغته. فتم إنشاء أول مدرسة لتعليم اللغة الإنجليزية عام 1902م.
وفي تلك الفترة، حافظ نظام التعليم على شكله العرقي، فسنغافورة كبقية دول المنطقة، تتألف من ثلاثة أعراق رئيسية، هي: المالاوية، والصينية، والهندية. وبما أن الانضمام إلى المدرسة الانجليزية كان محصورا على فئة العمال الموظفين من الاستعمار، فإن بقية المدارس كانت خاصة بكل عرق على حدة.
وما أن وصل “حزب العمل الشعبي” للحكم عام 1959م، وجد كوان يو نفسه مضطرا للتعامل مع حساسية تعدد الأعراق هذه (76% صينيون، 15 % مالايو، 7% هنود). وكان لزاما عليه أن يحافظ على وحدة البلاد، وفي نفس الوقت عليه أن يحقق لكل عرق رغبته بالمحافظة على لغته وهويته.
ولا تكمن المشكلة الرئيسية في اختلاف اللغات فحسب، بل أن كل عرق يتبع ديانة مختلفة عن ديانة العرق الآخر، فوجد رئيس الوزراء أن فَرض لغة وثقافة الأغلبية (العرق الصيني) ونظامه التعليمي سيتسبب في خلق الكثير من المشاكل والنزاعات العرقية والدينية. فإنه من الإجحاف تجاهل الأقلية وطمس هويتها. فوجد الحل في تطبيق نظام “ثنائية اللغة” Bilingual، فجعل اللغة الإنجليزية اللغة التعليمية الرسمية في كافة مدارس الدولة، وفي نفس الوقت يحق لكل فرد أو عرق أن يختار لغته الخاصة كاللغة الأم يتخاطب بها بين أقرانه. ومع تطبيق نظام حرية الممارسة الدينية تمكن كوان يو من خلق هوية دولة سنغافورة الحديثة، المتعددة الأعراق الخالية من النزاعات والخلافات الدينية والعرقية، والتي يحظى فيها الأقلية بكافة صلاحيات وحقوق الأغلبية.
وما أن استقر الأمر على ذلك حتى توجه إلى تحديد أهداف النظام التعليمي، فجعل الهدف الرئيسي هو تطوير إمكانيات كل طالب من الناحية الذهنية، والأخلاقية، والبدنية، وكذلك أن يكتشف كل طالب مهاراته وقدراته الفردية، ليطبقها بالطريقة التي تمكنه من خدمة وطنه ومجتمعه على أكمل وجه. فجعل التركيز في التعليم على التحصيل النوعي بعد أن كان مرتكزا على التحصيل الكمي.
ومن أجل الوصول إلى درجة الامتياز النوعي في التعليم، قام بالتركيز بشكل أساسي على كفاءة المعلمين، وجميع العاملين في قطاع التعليم. بل أصبح يُنظر إلى المعلم على أنه الركيزة الأولى والأساسية بين ركائز العملية التعليمية. فتم الحرص على تنمية قدراته ومهاراته التعليمية والإدارية، وحرصت الحكومة على الارتقاء بمستوى كفاءة المعلم عن طريق برامج تطويرية وتدريبية مختلفة، لدى أعرق مراكز التعليم في كل من أمريكا وبريطانيا. 
وكذلك تم الحرص على توفير عدد كاف من المعلمين في المدرسة الواحدة، وذلك للتخفيف من العبء الإداري الروتيني على المعلم. فيصبح المعلم بذلك متفرغاً لطلابه وتعليمهم وكذلك لديه الفسحة الكافية من الوقت لتطوير مهاراته وتقوية معلوماته. ومن باب تحفيز المعلمين فقد تم إنشاء نظام دقيق لتقييم أدائهم، يعتمد هذا التقييم بشكل أساسي على إسهامات المعلم وإنجازاته التي يقدمها للمدرسة والمجتمع. ونتيجة لهذا التقييم قد يحصل المعلم المتفوق على مكافآت وعلاوات سخية وعالية جداً في نهاية كل عام. 
يقول البروفيسور ديفيد هوجن (أستاذ التربية في جامعة كوينزلاندز الأسترالية) في تقييمه للمعلم السنغافوري: “يتمتع المعلم السنغافوري بشخصيته القوية في الفصل، فهو من يدير النقاش، ويحرص على أن كل محاور النقاش تدور حول موضوع الدرس. وتنبع قوة شخصيته من تمكنه من تخصصه وإتقانه له، وهذا ما يساعده على إعطاء الكثير من التجارب العملية، والأمثلة الواقعية لموضوع الدراسة”.
وبما أن النظام التعليمي الذي أسسه كوان يو يحرص على اكتشاف كل فرد لمهاراته وقدراته، فقد تم تقسيم المراحل التعليمية إلى أربع مراحل: الابتدائية (6 سنوات دراسية)، ثم الثانوية (5 سنوات دراسية)، ثم التحضيرية (سنة أو سنتين)، ثم الجامعية. وقد جعل المرحلة الابتدائية مجانية وإلزامية على كل طفل. وفي نهاية هذه المرحلة يخضع الطالب إلى امتحان وطني يحدد من خلاله اهتماماته والمساق الذي سينتقل إليه في المرحلة الثانوية، وذلك حسب ميوله وحسب نتيجة الامتحان.
ومن الجدير ذكره هنا، أن كوان يو لم يكتف بتحديد الأهداف التعليمية وطرق تطبيقها فحسب، بل كان يباشر بنفسه الإشراف والتأكد من أن التعليم يسير في الطريق الصحيح. يذكر البروفيسور بيرتل أنديرسون (رئيس جامعة NTU السنغافورية) شهادته على أنشطة كوان يو المتمثلة في زياراته المفاجئة للجامعات والمعاهد والمدارس، فيقول: كان رئيس الوزراء يقوم بإجراء زيارات مفاجئة للجامعات والمعاهد، وكان يخصص أوقات عطل نهاية الأسبوع يتفقد فيها طلاب السكن الداخلي، ويستمع إلى طلباتهم واقتراحاتهم، ثم يوصي بها إلى إدارة هذه الجامعات. وفي نفس الوقت كان يعقد ندوات ومحاضرات عامة يخاطب فيها الطلبة مباشرة، ليذكرهم بالواجب الوطني الذي ينتظرهم فور تخرجهم، ويشاركهم بأفكار ومخططات المستقبل، والصعوبات التي قد تواجه الحكومة حيال تحقيقها، والدور الذي تتوقعه الحكومة منهم. 
يمكننا القول أن هذه التجربة ومراحلها المتعددة والممتدة على مدار حوالي 50 عاما، تحتوي على الكثير من التفاصيل والمعلومات الدقيقة التي قد تهم المختصين في تطوير الأنظمة التعليمية في بلادهم، وما تم ذكره هنا إنما هو نظرة عامة، أما التفاصيل فهي معروضة ومتوفرة لمن أراد الاستفادة منها والاقتداء بها. ويذكر بعض الباحثين أن دولا أوروبية بدأت تطبق مناهج سنغافورة لديهم، وقد تم رصد ارتفاع ونمو في مستوى معرفة ووعي الطلاب عندهم خلال فترة وجيزة.
أما محصلة هذه التجربة، فقد انعكست على التقييم العام لمستوى التعليم السنغافوري عند مقارنته ببقية دول العالم. فقد نشرت منظمة الاقتصاد والتعاون والتنمية العالمية في تقريرها الصادر في مايو 2015، نشرت تصنيفا دولياً للتعليم شمل مختلف دول العالم. فتوصل التقرير إلى أن سنغافورة تحتل المركز الأول عالمياً.
وأشار التقرير إلى أنه ثمة علاقة طردية بين مستوى التعليم والنمو الاقتصادي في البلد. فكلما تحسن المستوى التعليمي لبلد ما، كلما تحسن أداء هذا البلد اقتصادياً.
وهذا يؤكد بطبيعة الحال صحة النظرية التي تبناها رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو عندما رهن نمو وتحسن اقتصاد بلاده بمستوى تعلم ومعرفة أفراد شعبه. فقدرة البلاد وتقدمها لا يرتبط بما حباها الله من خيرات ومصادر للدخل فحسب. بل هو مرتبط بتنمية وتثقيف عقول شعبها. ومن جعل شعبه رأس مال بلده فسيربح ود ومحبة هذا الشعب أولا، وسيضمن تقدم ونهوض بلاده هذه ثانيا.
ويا ليت قومي يعلمون.

_____________________

*باحث أردني مقيم في ماليزيا
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه