تأسيسُ الوعيّ المبكّر وأثره في قضيّة تسريب العقارات المقدسيّة

 

 

أَوْلَتْ عِـمامَـتُـكَ العَـمائِمَ كُلَّها

شَـرَفًا تَـقْصُرُ عِـنْدَهُ التّيجانُ

 

شُهَـداءُ بَـدْرٍ والـبَقـيع تَهَـلَّـلَتْ

فَـرَحًا وَهَــشَّ مُـرَحِّبًا رضْوانُ

 

إنَّ الزِّعامَةَ والطَّريقُ مَخُوفَةٌ

غيرُ الزِّعامَةِ والطَّريقُ أمانُ

 

في مثل هذا اليوم قبل ثلاثٍ وثمانين سنة رثى الشّاعر فؤاد الخطيب بهذه الأبيات الشّيخ عزّ الدّين القسّام الذي استشهد في المواجهة غير المتكافئة مع جنود الاحتلال البريطاني.

القسّام الذي ما زال صدى صوتِه يتردَّد ‏في آذان الشَّباب وقلوبِهم من على منبرِ جامع الاستقلال في حيفا: “إن كنتم مؤمنينَ فلا يقعدنَّ أحدٌ منكم بلا سلاحٍ ‏وجهاد”‏

وعندما قرَّر أن يبذرَ جسدَه في أحراشِ “يَعبَدَ” من الأرضِ المباركةِ كانت وصيَّتُه ‏في جيبِه؛ مصحفَه المعطَّرَ بأريجِ دمه؛ وجسدَه المبذور في روحِ الأرض المباركةِ الذي ‏أفرعَ جيلاً كاملاً يرفعُ مصحفاً وبندقيَّة؛ ويسقي بالدَّمِ الزكيِّ جهادَهُ الخالدَ في ساحاتِ ‏الوغى.

لم يكن الشّيخ عزّ الدين القسّام مجرّد عالمٍ أو واعظٍ أو خطيب، بل كان قائد ثورةٍ يبنى الوعي بين يديّ المواجهة، ويحصّن الأفهام، ويزرع الفهم، ويصدّق القول بالفعل، ويروي كلماته بروحه لتنتفض بين الأنام وتبقى متحرّكةً بلا كلل ولا ملل.

منظمة الكفّ الأسود

في عام 1930م أسّس الشّيخ عزّ الدين القسّام مجموعةً سريّةً أطلق عليها اسم “الكفّ الأسود”، كانت مهمّة هذه المجموعة بالدّرجة الأولى تتبّع سماسرة الأراضي من العرب واليهود ممّن يقومون بشراء ونقل وتشجيع ملكيّة الأراضي من العرب لليهود واستهدافهم بالاغتيال.

وبعد استشهاده تضعضعت أركان المجموعة، لكنّ من يزرع الوعي ويبني الجيل لا تنتهي أعماله بانتهاء حياته، فسرعان ما سارع أحد تلاميذه وهو “سرور برهم” إلى إعادة بناء المجموعة واستمرار ممارسة عملها الذي أقضّ مضاجع السماسرة من جهة، وشكّل صورةً ذهنيّةً خطيرةً عمّن يفكّر بهذا الفعل فبنى حصانة مجتمعيّة واعية مبكّرةً ساهمت في الحفاظ على الأرض ومواجهة المغريات.

مؤتمر علماء فلسطين وتأسيس الوعي المبكّر

من أهمّ أدوات بناء الوعي في زمن الهجمة الصّهيونيّة الأولى على العقارات في فلسطين عمومًا والقدس على وجه الخصوص في زمن الاحتلال البريطاني هم العلماء والدعاة وما يملكون من أدوات مثل المنبر والمسجد والفتاوى.

وقد كان لهم دور بالغ الأهميّة في تحصين العقل الجمعي الفلسطيني والعربي ضدّ انتقال العقارات للعدوّ الذي يريد مسح الهويّة واحتلال الأرض والمقدّسات.

فتضافرَ الفعل الجهاديّ العلنيّ للشيخ القسّام مع الفعل السريّ لمنظمته “الكفّ الأسود” مع الجهد الدؤوب لعلماء ودعاة فلسطين ومن ذلك عقد مؤتمر علماء فلسطين في القدس يوم 26/1/1935م

 حضر المؤتمر حوالي أربعمئة مندوب من المفتين والقضاة والمدرسين والخطباء والأئمة والوعاظ، وقد كان على رأس المجتمعين الحاج محمد أمين الحسيني مفتي مدينة القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ومحمد أمين العوري أمين فتوى القدس وعضو محكمة الاستئناف الشرعية، وحسن أبو السعود مفتي الشافعية ومفتي المحاكم الشرعية، ومحمد تفاحة الحسني مفتي مدينة نابلس، ومحمد أسعد قدورة مفتي صفد وقاضيها، ومحمد طاهر الطبري مفتي طبريا وقاضيها، ومحمد أديب الخالدي مفتي مدينة جنين، ومحمد سليم بسيسو مفتي مدينة بئر السبع، وإسماعيل الحافظ رئيس محكمة الاستئناف الشرعية.

 لم يكن للمؤتمر سوى قضيّة واحدةٍ لبحثها وهي بيع الأراضي لليهود، والأخطار الناجمة عنها، وموقف الشرع من هؤلاء الذين يتآمرون على ملكية أرض فلسطين وتسريب أراضي المسلمين لليهود.

وقد ألقى الحاج أمين الحسيني رئيس المؤتمر كلمة وجهها للحضور وللعالم الإسلامي كلّه قال فيها: “ولنا كلمة إلى إخواننا في الأقطار العربية الإسلامية، وهي إذا ظلّوا ينظرون إلى هذه المأساة، مأساة الأندلس الأخرى غير مبالين ولا مكترثين فإنّ موقفهم هذا لا يرضي الله ورسوله ولا يرضي تاريخ الإسلام الذي آخى بين المسلمين، وليعلموا أن المصيبة في هذه البلاد التي أوقعها سوء حظها بين براثن الطامعين، سوف لا تنحصر فيها بل تتعداها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى”

لقد كان هذا المؤتمر نموذجًا لحالة تأسيس الوعي المبكّر بمخاطر تسريب العقارات للعدوّ الصّهيونيّ، هذا البناء الذي غدا ثقافةً عامةً ترى من باع أرضه لليهود قد باع دينه ووجوده كلّه.

وقد انتهى هذا المؤتمر إلى صدور فتوى بإجماع الحاضرين الموقّعين عليها، جاء فيها: ” بعد النّظر في الفتاوى التي أصدرها المفتون وعلماء المسلمين في العراق ومصر والهند وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى التي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين، وتحريم السّمسرة على بيع الأرض، والتّوسط فيه وتسهيل أمره بأيّ شكلٍ وبأي صورةٍ، وتحريم الرّضى بذلك كله والسّكوت عنه، وإنّ ذلك كلّه أصبح بالنسبة لكلّ فلسطيني صادرًا من عالمٍ بنتيجته راضٍ بها، فهو مستلزم الكفر والارتداد عن دين الإسلام باعتقاد حله”

كما جاء فيها: ” إنّ بائع الارض لليهود في فلسطين سواء كان ذلك مباشرة أو بالوساطة فإنّ السّمسار والمتوسّط في هذا البيع والمسهّل له والمساعدَ عليه بأي شكل؛ كلّ أولئك ينبغي ألا يصَلَّي عليهم ولا يُدفَنوا في مقابر المسلمين ويجب نبذُهم ومقاطعتُهم واحتقار شأنهم وعدم التودّد اليهم والتقرّب منهم ولو كانوا آباءً وأبناءً وأخوانًا وأزواجًا “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”

تأسيس الوعي المبكّر يثمرُ اليوم حصانةً راسخة

إنَّ تأسيس الوعي بخطورة تسريب العقارات لليهود الصّهاينة جعل هذه القضيّة متغلغلة في عمق الوعي الفلسطيني، متجذّرة في عقيدته وتوجهاته، لا تزعزعها مغريات، ولا تهزّها الظروف القاسية.

إنّ نظرة المجتمع الفلسطيني منذ تلكم الأيّام إلى اليوم ما زالت في اتساع وتعمّق ببشاعة الفعل والفاعلين

وما تزال تلك الثمار تينع إلى اليوم في دلالة واضحة على أنّ التحصين هو ثمرة الوعي الذي يتأسس عبر الزمن.

وما يزال المجتمع المقدسيّ يعيش حالةً من الحصانة عزّ نظيرها في مواجهة تسريب العقارات للاحتلال الصّهيوني

قبل أيام قلائل توفي مجموعة من الشّباب في حادث سير في مدينة القدس ليفصح هذا الوعي المؤسّس عن نفسه بطريقةٍ لا لبس فيها، حيث سارع أهل القدس وهم أهل النخوة والشّهامة إلى مواساة أهل المتوفين والصّلاة عليهم إلّا واحدًا منهم رفضوا جميعًا الصّلاة عليه او دفنه في مقابرهم وذلك لأنّه باع بيته لليهود!!

إنّ هذا المشهد هو ثمرة لوعيٍ ما زالَ يُبذَر منذ أكثر من تسعين عامًا حول بشاعة وخطورة تسريب العقارات لليهود في فلسطين عمومًا وفي القدس على وجه الخصوص.

صورة مجافيةٌ للواقع

وهنا لا بدّ من التأكيد على أمر بالغ الأهميّة، وهو أنَّ كثرة الحديث عن خطورة بيع الأراضي لليهود والعقارات في القدس قد يوحي بصورة ذهنيّة مغايرة للواقع، تقوم على اعتقاد أنّ التسريب والبيع هو الحالة السّائدة، ولكنّ هذا مخالف للحقيقة مجافٍ للواقع، فما زال أهل القدس يقبضون على جمر الصبر في مواجهة المغريات والتهديدات على حد سواء، صابرين على مرارة العيش لا يغريهم بريق الذهب ولا مغريات السماسرة، فالأصل هو التمسّك والثبات والتسريب هو الاستثناء الذي ما زال ممجوجًا.

وهذا يوجب على الجميع التحرّك ليكونوا عضدًا لهم في هذه المعركة الصّامتة التي هي اليوم من أشرس المعارك، ولكن لا يلتفت لها الكثيرون لأنّها معركة بلا أشلاء ولا دماء ولا بارود

ولكنّها معركة تستهدف تمزيق القدس على أشلاء متناثرة وإراقة دم المدينة التي كانت وما زالت محورَ الصّراع على مرّ العصور.

 

 

 

 

 

 ‏

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه