بين الفكرة والجغرافيا.. وطن يضيع

يختلف مفهوم الوطن بالنسبة للبشر فيتسع حتّى يصبح فكرة، ويضيق حتّى يصبح بقعة جغرافية لها أهميتها التي تصل حدّ التقديس وتؤدي إلى بذل النفس رخيصة في سبيلها.

نشأت الحروب منذ بدء التاريخ بسبب أمرين، المرأة والملكية، تطوّر مفهوم الملكية ليصبح أشمل وأعمق واتّخذ شكل الوطن. وتقلّصت الحروب من أجل المرأة لتصبح حروباً صغيرة فردية ترتبط أحيانا بمفاهيم أخرى كالشرف.

مفهوم المكان “الوطن” ليس مفهوماً ثابتاً؛ لذا لم ترتبط به فئة من البشر جعلت انتماءها للإنسانية، فهي ترى أنّ المكان خاضع لتغييرات يصنعها الإنسان أحياناً، وتقوم قوى طبيعية بفعل ذلك أحياناً أخرى، هناك أماكن اختفت من العالم إمّا بالغرق أو الانقراض فالمكان يتقلّص ويزول، مثل الممالك القديمة “الآشوريين، البابليين”، وما يبقى منها هو الثقافة والمفاهيم، إذن الإنسان أقوى من المكان؛ لأنّ تجاربه في الحياة هي الباقية، بمعنى آخر أثره هو الباقي؛ لذا حرص الإنسان على استمرار نسله، وزرع مفاهيم معينة في الأجيال التي تخلفه على الأرض. إذن أنا لست أكثر من:

“كائن بشري ينتمي لمكان، لكنّي لست منتج المكان الذي أتيت منه. أنا أرتبط بمفهوم، هذا المفهوم هو التّجارب، ولا يمكن لمكان أن يقيدني.”.

ما يمثل الإنسان مهاراته خارج نطاق الدولة، فأنا أنتسب إلى الإنسانية عموماً ولست مع اجترار أمجاد الماضي فالرجوع إلى الخلف “خيال” وأنا كائن بشري أنتمي إلى الواقع. وما يحدد هويتي هو “الطقوس، العلاقات، الحدود”.. ثوابت الشّخصية التي يحملها الإنسان أينما ذهب هي انتماؤه الحقيقي.

بإمكان أيّ شخص أن يلاحظ التّجمعات السّورية مثلا أو المصرية في دول الخليج أو المهجر فيجد أنّ الأفراد يحملون معهم “طقوس” المكان الذي أتوا منه بدءاً بأسماء المقاهي والمطاعم والبقاليات “ليالي الحلمية” “ملحمة دمشق” إلى المواد المباعة “المعسل، الخبز، المتة” إلى طريقة تحضير الطعام، وهذا يدل على أنّ طقوس البلد البديل لم تؤثر فيهم بل هم من وضعوا بصماتهم في تلك البلاد. السوريون في تركيا مثلاً لم يدخلوا إليها طقوسهم في الطعام فقط بل في تربية الحيوانات والزراعة فالمناطق التركية الحدودية التي يقيم فيها السوريون عرفت زراعة الملوخية لأوّل مرة منذ ثلاث سنوات، والأتراك عرفوا لأوّل مرّة أنّ “القرع” يمكن أن يطبخ “محشي”.. وكان لهم تأثير في تطوير الزراعة واستثمارها حتّى إنّ وزير الزراعة التركي طالب بعدم إعادتهم إلى بلادهم.

السّلطة الخفية للمكان:

تأتي “الهيمنة” أو السلطة التي يمارسها الإنسان من منتج الآخرين الذين ينتمي إليهم، أو مكان إقامتهم، فعندما يجيبك شخص على سؤال “من أين أتيت؟” بأنّه “يحمل الجنسية الأمريكية” فهو يهيمن عليك بسلطة اكتسبها من البلد الذي أتى منه، وهذا ما نستطيع أن نطلق عليه السلطة الخفية المكتسبة بما فعله الآخرون الذين ينتمي إليهم.. بينما لا تمنح الهوية العربية صاحبها القوة التي تهيمن على الآخر بل يحتاج العربي إلى إظهار مهارات فريدة ليقتنع الغربي أنّه أمام إنسان!

لذا يُفضّل الذين يرون أنّ مفهوم الإنسانية أفضل من مفهوم القوة ألا يعلنوا عن جنسيتهم وأن يجيبوا على السّؤال بأنّهم ينتمون إلى الإنسان. ربما يكون هذا التفكير إحدى النقلات الضرورية للحداثة فقد استمر طويلاً جداً المفهوم البدائي لعلاقة الإنسان بالمكان والذي تمثل بمفاهيم البداوة الأولى حيث كان “الماء والكلأ” هو ما يربط الإنسان بالمكان؛ وكان البدو يقومون بغزوات ينهبون خلالها ما يحتاجون إليه في حياتهم ويعودون ولا يهمهم أن يحتلوا الأرض التي غزوها أو يقيموا فيها.. وقد قامت الحركات التي تتخذ الدين الإسلامي غطاءً باتباع أسلوب البداوة في الغزو.. وهو الأسلوب الذي اتخذته داعش فهي لا تهتم بالحفاظ على الأرض التي تحتلها وتقيم فيها زمناً بل تُسلّمها وتنسحب منها ببساطة أمام قوة تراها أعظم وذات هيمنة.. فالأرض تفقد قيمتها بمجرد فقدان مسبب البقاء فيها..

الإبداع خارج حدود الوطن:

بات معروفاً جداً حالة الإبداع المعرفي للعربي خارج حدود وطنه ويشكل أحمد زويل مثالاً ناصعاً في هذا الإطار وما نراه من تميز بعض السوريين الذين نزحوا إلى دول أوربا وتركيا ونفدوا من الموت تحت التعذيب في المعتقلات أو الموت ببراميل الأسد وصواريخ روسيا وسكاكين الدواعش.. يؤكد على أنّ الوطن ليس تلك الجغرافيا التي ولد الإنسان فيها وعاش بل الوطن فكرة ومفهوم أوسع وأكبر من الجغرافيا إنّه تلك المساحة الآمنة التي تمنح الإنسان فرصة الإبداع بتأمين الجوّ المناسب لاشتغال الذهن وصفائه. فخبر يأتي مفاجئاً وغريباً يقول: “مهندس سوري لاجئ في كندا يحل لغز نجمة النيوترون الذي عمل عليه العلماء منذ 78 سنة” خبرٌ يستحق أن يتوقف الإنسان لأجله عند فكرة المفهوم الحقيقي لكلمة وطن.

التباس البدهيات مع المعطيات الجديدة:

عداء المواطن العربي للكيان الصهيوني عداء متأصل تفرضه الوقائع عبر التاريخ وكذلك يفرضه الدين وهذا العداء يُعدُّ من المسلّمات التي لا جدال فيها لكن مع موجة الربيع العربي وانتصار الثورة المضادة المدعومة غربياً وإسرائيلياً تحتّم على الكثير من المواطنين العرب أن يكرسوا تأييدهم المطلق للطواغيت الجدد من أمثال السيسي وبشار الأسد وقد بات واضحاً جداً أن تثبيت السيسي وبشار في الحكم هو رغبة إسرائيلية فأصبح مفهوم الوطن لدى هؤلاء ضائعاً بين تأييد السيسي وبشار وبين العداء لإسرائيل فالسّوري أو المصري اللذان يقفان ضدّ الثورة كلاهما ضدّ إسرائيل وكلاهما مؤيد لبشار أو السيسي المؤيَّدَين من قبل إسرائيل، هذا الموقف جعل مفهوم الوطن ملتبساً، كما أنتج التّحول مواطناً مشوهاً هو ضدّ إسرائيل ومع إسرائيل في آن معاً، ويرفض الإقرار بذلك، ومع أوّل مواجهة يرفع في وجهك يافطة الإرهاب (الأخواني أو الداعشي) فسوريا التي أصبحت على أعتاب التقسيم تقابل بصمت مطبق شعبياً وهذا ينسف فكرة الانتماء الوطني تماماً ومصر التي بدأت أجزاء من أراضيها تخرج عن السيطرة المصرية (تيران وصنافير، والأراضي الممنوحة لبعض أمراء الخليج) أيضاً تقابل بصمت شعبي ينسف فكرة الانتماء للوطن على الرغم من احتجاج بعض المثقفين من النخب المعارضة للسلطة، فهل فقد المواطنون هذا الحس الوطني أم أنّه في الأصل لم يكن مبنياً على أسس سليمة؟

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه