بقلم مصري تحاصره الأمطار في بيته!

 

هذا أول شتاء أقضيه كاملاً في مصر منذ سنوات. قضيت من قبل أوقاتاً قصيرة في شتاءات قليلة، فلم أشعر بقسوة الشتاء، إلا هذا العام.

قيل لي إن البلاد شهدت شتاء صعباً قبل عامين، لكنه ليس بصعوبة ما نكابده هذه الأيام، ونتمنى رحيله سريعاً.على كلٍ، هناك متغيرات مناخية ملموسة شديدة الوطأة تضرب العالم شتاءً وصيفاً.

إذا كان سقوط الأمطار خارج قدرة أي حكومة على التحكم فيها، إلا أن ما بعد هطول المطر، هو الموضوع الذي يجب أن يكون في قدرة الحكومات للسيطرة عليه، فالأمطار خير من السماء، ومياه مجانية لكل بلد تهطل فيه، لا يجب تبديدها، وهناك بلدان تتنتظر زخات المطر بفارغ الصبر، وتؤدي صلاة الاستسقاء طلباً لنزوله، فليس عندها أنهار، وتكلفة حفر الآبار لاستخراج المياه الجوفية، أو تحلية مياه البحر باهظة.

البرد خارج الإرادة:

في مصر مياه الأمطار مهدرة، والنيل يوفر مياهاً لم تعد تكفي الاستهلاك والزراعة، وهي الآن في أزمة مياه وعطش يتهددها مع بناء إثيوبيا لسد النهضة وفشل المفاوضات الطويلة للتوصل لحلول مرضية بشأن ملأ وتشغيل السد دون نقصان من حصة مصر، أو تعرضها للضرر.

وقصة المياه الضائعة دون استفادة منها جزء من منظومة الشتاء الذي يصير كابوساً على الناس، فالأمطار تتسبب في توقف الحياة في المدن لبعض الوقت، وتجعلها جحيماً في الريف حيث البنية الأساسية شبه منعدمة، والشوارع ترابية وغير مرصوفة وتتحول إلى طين وأوحال، والحركة تصبح صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وتتعطل مصالح الناس.

الحكومة مستسلمة للشتاء وأفاعيله، ولا تتعامل معه ومع آثاره كما يجب، تبدو غير معنية بالشتاء وتداعياته، ربما الفكرة المسيطرة على العقل السلطوي أن البرد خارج الإرادة، والأمطار تسقط مرة أو مرات ثم تمضي وينتهي الأمر، وطالما ليس هناك محاسبة رسمية أو شعبية فيبقى الخلل ويكبر حتى يصير أمراً اعتيادياً.

الأصل أن الشتاء فصل صعب، والحكومات الخادمة لشعوبها حقاً تستعد له قبل حلوله بأشهر بكل الوسائل الممكنة، عبر صيانة المرافق والبنية التحتية الأساسية، وعلى رأسها شبكة تصريف الأمطار، والتأكد من جاهزيتها، ومخرات السيول ومراجعة شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والطرق والجسور والأنفاق، والدفاع المدني، والإسعاف وطوارئ المستشفيات، ومناطق الاختناقات المرورية المعتادة، وتنشط لجان الطوارئ في مختلف المحافظات والمقاطعات، كما تنشط لجنة إدارة الكوارث والأزمات.

إنها إدارة شاملة ويقظة وجادة من مختلف الأجهزة المتناغمة في عملها بفهم ووعي كامل لتأمين المواطنين وحمايتهم وحفظ مصالحهم وتجنيبهم أي خسائر وجعل الحياة تسير بوتيرتها الطبيعية قدر الإمكان.

لكن الأجهزة والمرافق والهيئات المعنية في مصر في واد، والشتاء في واد آخر، فهى تعتبره ضيفاً عابراً لا علاقة لها به، لكنه لم يعد عابراً، إنما مقيماً وثقيلاً، من أسف أن الحكومة تتعامل مع الشتاء وتزيل آثاره بالتصريحات الإنشائية، وحديث (كله تمام)، والواقع أنه لا شيئ تمام، أو على ما يرام، مصر كلها هذه الأيام تتحدث عن نفسها وهي غارقة ومتعطلة وتعاني من مآسي سقوط المطر.

المطر هو الكاشف:

والأمطار أصدق من يكشف الإهمال والتكاسل واللامبالاة والغياب عن التزامات المسؤولية بشكل عملي، ودون مجاملة، ولم يكن ذلك في مناطق سكن عموم الشعب فقط، إنما في مناطق سكن الصفوة أيضاً حيث غرقت هى الأخرى في بحيرات المياه، وانكشفت مساوئ طرق جديدة تم إنفاق ملايين ومليارات الجنيهات عليها، وظهرت عيوب أنفاق قديمة وحديثة، وتعرى خلل مشروعات بنية أساسية ضعيفة غير متقنة التنفيذ.

لم يكن الأمر بحاجة لأصوات معارضة خارجية أو داخلية، أو استدعاء نظرية المؤامرة، أو الحديث الموهوم عن المشككين في الإنجازات، والداعين للإحباط، والمشوهين لصورة الحكومة، فالمطر الهابط من السماء هو الكاشف، بلا خصومة مع أحد أو تآمر من أحد، للإخفاق في الإدارة والتنفيذ وفاضح للعيوب في البنية التحتية القديمة المتهالكة والمشروعات الجديدة ضعيفة الجودة، وغياب الرؤى والخطط قصيرة وطويلة المدى.

الشوارع والميادين والأنفاق تتحول إلى برك من المياه، لا توجد شبكة تصريف حديثة وجيدة لمياه الأمطار، التصريف يتم في شبكة الصرف الصحي، إلا محافظات محدودة.

 الدول تنشيء شبكات تصريف قومية خاصة لمياه الأمطار، وتستفيد منها في الزراعة، فهى أنهر وهبها الله لها، لكن أحد المتحدثين الرسميين يقول: هل ننفق المليارات على شبكة تصريف من أجل أمطار تسقط مرة أو مرتين في العام؟.

منتهى ضيق الأفق، والاستهانة بأسس وأهمية البنية التحتية، وحياة وراحة الناس، والغريب أنه قال ذلك في مرحلة تنتظر فيها مصر المجهول في مياه نهر النيل بسبب السد الإثيوبي.

لو كان هناك تفكير استراتيجي لتم إقامة شبكة تصريف مياه الأمطار في أنحاء الدولة، بدلاً من مشروعات لا ضرورة عاجلة لها، بناء الأوطان يكون برؤية استراتيجية للمشروعات الخدمية الأساسية بالموازاة مع الاهتمام بالتعليم والصحة والبعد الاجتماعي، ثم بعد ذلك يتم إقامة المساكن الفاخرة والأبراج والفلل والاستراحات والمساجد والكنائس الكبرى.

لو كان في مصر شبكة تصريف مياه جيدة واستقبلت الكميات الهائلة التي جاءتها من السماء ثلاث مرات حتى الآن، لتوفر مخزون دون جهد لري مساحات كبيرة من الأرض المستصلحة، أو الأرض السوداء القديمة، ولما ارتبكت مختلف مدن ومناطق الدولة.

شبكة تصريف المياه كانت ستنقذ القاهرة والمدن والريف من الغرق والشلل المروري والازدحام الخانق المعطل للحياة وضياع ساعات طويلة في حبس اضطراري داخل وسائل المواصلات، وإهدار الطاقة والمال، وزيادة متاعب الناس ومآسيهم.

عشت بنفسي واحدة من هذه التجارب، وشاهدت ما لم أشاهده من قبل، بحيرات من المياه في الشوارع، وأن تبحث عن رصيف تسير عليه حتى تتجنب برك المياه لم تعد موجودة، فالأرصفة غارقة مثل الشوارع، أما عن الحركة في الشوارع وفوق الجسور وداخل الأنفاق فتظل متوقفة ساعات طويلة، لا أحد يتحرك، سيارات غارقة، أسلاك كهرباء مكشوفة، حفر مغمورة ومختفية في المياه تباغت السائر والراكب، أناس يفقدون حياتهم في حوادث تتعلق بالأمطار، وتصادم سيارات وقطارات، وفي زحام الشوارع تجد قصصاً تصلح كل واحدة منها أن تكون فيلم إثارة عما عايشه كل من تصادف وجوده خارج بيته وقت المطر.

تجارب دول:

ماليزيا التي تهطل الأمطار فيها معظم شهور السنة، لا يشعر من يعيش فيها، أو يزورها بوجود المياه، فالدولة أنشأت بنية أساسية حديثة ومجهزة، وضمنها شبكة تصريف الأمطار التي تلتقط كل نقطة وتخزنها للاستفادة منها، وكذلك يحدث في تركيا، ومنها أسطنبول، وفي كل بلدان العالم التي تستقبل المطر في شتاءاتها حيث تكون مستعدة كما تستعد لكل أمر طارئ.

عشرات الشتاءات مرت بمراراتها وأزماتها، ولكن لا حياة لمن تنادي في اعتبار هذا الموسم له وضعية خاصة، وبحاجة لاستعدادات متقدمة، كأنك تنفخ في “قربة” مقطوعة، والمدهش أن الإعلام الموجه يتعامل مع كوارث الأمطار كأنها أحداث عابرة فلا يمنحها حقها من النقاش والتركيز على السلبيات ومناطق الخلل لعلاجها، لكنه يركز على قضايا هامشية غير أساسية لحياة الناس ومستقبل البلد.

والهدف هو التغطية على الإخفاقات، فهناك منطق غير مستقيم يقول إنه يجب التركيز على الإيجابيات، وتجاهل السلبيات حتى لا يفقد الناس ثقتهم في السلطة، ولا يتم فتح أبواب للنقد والهجوم والغضب والاحتقان. والمدهش أن الناس الذين يحاولون أخذهم بعيداً وتصوير الحياة لهم كأنها وردي، هم أنفسهم الذين يعيشون في قلب المشاكل، ويتضررون منها، وهم الذين يعانون من نتائج المطر، وكل منغصات الحياة، فكيف يمكن خداعهم؟.

أكتب هذا المقال وأنا، مثل الملايين غيري، محاصر في بيتي، فلا قدرة على الخروج، والخدمات من مياه وكهرباء واتصالات، غير مستقرة في أماكن كثيرة، والحكومة لديها علم بالموجة الحالية من الأمطار، فلم تحدث بغتة، ولهذا منحت العاملين في الدولة أجازة، وأخذت معهم الأجازة، وغطت في نوم عميق.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه