بعد مائة عام من “ثورة 19”.. عود على بدء

عندما ظهر شعار يحيا الهلال والصليب في مواجهة المستعمر والمطالبة بالإفراج عن وكلاء الأمة، لم يكن له أي موقع من الإعراب

أيام قليلة تفصلنا عن المئوية الأولى لثورة 1919، ومن قبلها الثورة العرابية وما بينهما حركات نضالية أشهرها حركتا مصطفى كامل ومحمد فريد، وبعدها فاصل طويل من النضال السياسي ضد الاحتلال البريطاني وضد نظام الحكم الفاسد باعتباره حليفا للمستعمر ..
ومشاهد كثيرة منها ما هو سطحي وما هو عميق لمواقف سياسية متباينة وأيدولوجيات جديدة على الواقع المصري ومواقف ثورية ومواقف انتهازية، وشخصيات صاعدة وشخصيات هابطة، ومعارضة جذرية ومعارضة هامشية ..
وبحسب التأريخ الرسمي للأحداث في مصر يتم تتويج كل هذا بثورة 1952 باعتبارها الثورة الشعبية التي مكنت الشعب من حكم نفسه!!… هكذا الصورة التاريخية التي تم فرضها على أذهان أبناء جيلي وأجيال بعدها.

لو سلمنا بهذه المشاهد دون أي تناول نقدي لها لأصبح من المنطقي اعتبارها تراكمات متتالية للوصول إلى ثورة الشعب في 25 يناير/كانون الثاني 2011، ولكانت هذه الثورة المستندة على تراكم نضالي عبر عشرات السنين قد استقرت على مقعد النجاح وحققت مطالبها بالحرية والعدالة الاجتماعية، ولكنه لم يحدث ..
ليس لعدم استيعاب الشعب الثائر لدروس وتراكمات التاريخ، ولكن لخلل في قراءة التاريخ طوال الوقت أدى لانفصال كل حدث عن الآخر بحيث لم يحدث أي تراكم حتى لمرحلتين متتاليتين، وبحيث لم تستفد أي حركة تحررية أو ثورة بأي نشاط سياسي أو جماهيري سبقها، ولم تستفد من الهزائم، والمفروض أنه أمر منطقي ..
فكانت الحركات الثورية في مصر جزرا منفصلة عن بعضها، بدليل أن الكبوات الخطيرة التي وقعت فيها ثورة 2011 تتشابه مع نفس الكبوات التي دمرت محتوى ثورة 1919، فيما تشابهت في النتائج السلبية.. فدعونا نتحدث حديثا مفتوحا في هذا الأمر دون خطة أو تحفظ ومراجعة نتائج هذه الثورة وما تلاها باعتبار أننا ورثة السلبيات.

مقدمات فطرية

للثورات أسباب ودوافع تتغير بحسب انتماءات أطرافها ومواقعهم الاجتماعية، إلا أنه هناك أسباب مرهونة بدوافع فطرية تشترك فيها معظم المتباينات وأهمها ثورات التحرر من المحتل الأجنبي ..
وهذا كان الدافع الرئيسي للثورة العرابية عام 1882م والتي اشترك فيها سعد زغلول محرك ثورة 1919م، إذن فالحركة العرابية كانت أشبه بحركة مقاومة شعبية وطنية ضد مستعمر أجنبي وليست ثورة بالمعنى الكامل ..
صحيح أنها كانت مناهضة للحاكم توفيق الذي كان مواليا للاحتلال، وصحيح أن عرابي قاد حركة مطالب فئوية للجيش في مواجهة تهميش الضباط المصريين لحساب الضباط الشراكسة، وصحيح أنه كان هناك تماس في حركة عرابي مع بعض مطالب الشعب، إلا أن الشاهد أنها لم تكن ثورة تستهدف تغيير نظام الحكم، أو تتعلق بالتمرد على الخريطة الاجتماعية والطبقية في مصر ورفضها ..
لهذا كانت أقرب للحركة الوطنية التحررية منها للثورة، وكما قلت كان ضمن المشاركين فيها المحامي الشاب سعد زغلول، والذي أصبح فيما بعد المحرك الرئيسي لما عرفه التاريخ باسم ثورة 1919م، فهل كانت أحد نتائج ما أُطلق عليه الثورة العرابية، وهل استفادت ثورة 1919 من الخبرات التراكمية لانتصارات وهزائم الثورة العرابية.

دوافع ثورة 1919

الحركتان الثوريتان وأقصد العرابية و1919 كانتا تتعلقان بمواجهة المستعمر الأجنبي، إلا أن الأولى اعتمدت على المواجهة العسكرية والشعبية لطرد الاحتلال ورفضه والحفاظ على استقلال البلاد، والثانية اعتمدت على المفاوضات السلمية مع المحتل ذاته للتنازل عن أطماعه ومكاسبة التي حققها كمحتل وإعادة الاستقلال لمصر ..
وهذا الاختلاف هو الذي جعل الحركتين كجزيرتين منفصلتين عن بعضهما، مع ملاحظة أن كليهما لم يستهدف الثورة على نظام الحكم القائم وتغيره رغم أنه كان نظاما مواليا ومساندا للاحتلال، بل إن أحمد عرابي كان حريصا على تأكيد ولائه للسلطان العثماني الذي لم يرفض احتلال مصر بل كاد يقترب من مرحلة الترحيب بالمحتل إذعانا أو طواعية.

العنف الذي أحاط بثورة 1919 لم يكن عنفا منظما بقدر ما كان رد فعل لعدة أسباب منها ما يتعلق باستفزاز المحتل وتعاليه وغبائه في التعامل مع طالبي مفاوضات الاستقلال وهو الغباء الذي حول حركة سعد زغلول ورفاقه من حركة مفاوضات سلمية إلى حركات شعبية ثورية عنيفة في الشارع، ولكنه عنف كان يستهدف الهتاف بحياة الزعماء أكثر من الهتاف للهدف الرئيسي وهو الاستقلال ..
وهذا طبيعي في ظل حركة ثورية تعتمد على الوكالة وليس على تنمية الوعي الشعبي، ولهذا نستطيع أن نقول: إن الشعب لم يكن يمتلك رؤية سياسية واضحة لتحركاته داخل إطار هذه الحركة بقدر ما كان يمتلك قرارا وجدانيا بتنفيذ إرادة الوكلاء عنهم باعتبارهم أولي الأمر والأدرى بمصلحته، وهذا يفسر العنف الفطري غير المنظم عندما شعر الشعب بمخاطر وأضرار تحيط بهؤلاء الوكلاء بعد صدور قرار نفيهم.

المناورة

وأدرك المحتل مدى الخطأ الذي ارتكبه في التعامل مع سعد زغلول ورفاقه والذي أدى إلى تحركات عنيفة في الشارع، فعدل سياسته واستجاب لمطلب الشعب بالسماح لسعد ورفاقه بالسفر لباريس لعرض مطالب الاستقلال، وهو مطمئن إلى أن التفاوض مرتبط برؤية الوكلاء السلمية، وليس بالرؤية الشعبية واختبار وجدان الشارع.
وفي باريس تستمر مفاوضات مدة طويلة زادت عن عام ليعود أعضاء الوفد دون تحقيق أي نتائج إيجابية مختلفين فيما بينهم اختلافات شديدة، وصلت إلى حد قيام جزء منهم بمفاوضات منفصلة مع الإنجليز، وغض النظر عن قيام الإنجليز باعتقال الجزء الثاني ومنهم سعد زغلول ونفيهم مرة أخرى ..
وطوال وقت المفاوضات لم يتم عرض أي تطورات تتعلق بها على الشعب، وحتى الوكيل عن فئة أو أشخاص يقوم بعرض نتائج مفاوضات كل مرحلة وهذا لم يتم في مفاوضات الاستقلال، وكأنها مفاوضات تحمل الرؤية الخاصة للنخبة الموكلة عن الشعب!!

والحقيقة الواضحة أن جيش الاحتلال أساء التقدير عندما تصور أن الاختلافات والفرقة التي نجح في زرعها داخل معسكر المفاوضين ستمكنه من نفي سعد زغلول مرة أخرى دون رد فعل شعبي، ولم يدرك أن سعد زغلول أصبح وحده رمز حركة الاستقلال والمحرك الرئيسي لإرادة الجماهير ووجدانها، فاندلعت المظاهرات مرة أخرى، ليتراجع المحتل مرة أخرى ويعود لسياسة الاستيعاب بإصدار تصريح 28 فبراير/شباط الذي اعترف باستقلال مصر مع وضع أربعة تحفظات جعلت الاستقلال مجرد إجراء شكلي دون محتوى.

وتصريح 28 فبراير 1922 هو تصريح أعلنته بريطانيا من طرف واحد في لندن والقاهرة أعلنت فيه إنهاء الحماية البريطانية على مصر، وأن مصر «دوله مستقله ذات سيادة»، واحتفظت بحق تأمين مواصلات إمبراطورتيها في مصر، وحقها في الدفاع عنها ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي، وحماية المصالح الأجنبية والأقليات فيها، وإبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه. وتحولت السلطنة المصرية بناء عليه إلى المملكة المصرية.

وبالطبع بناء على هذه التحفظات الأربعة ظلت قبضة المحتل قوية في مصر وظل متحكما في كل الأمور.

عفوا أيها القارئ سأخرج بك من الإطار التاريخي وأعود مضطرا للواقع فقد ذكرتني أحداث استيعاب المستعمر للنخب المنفصلة عن شعبها قليلة الخبرة وخاصة اتفاقية 22 فبراير 1922 بما حدث في فبراير 2011 عقب ثورة 25 يناير من نفس العام عندما وقف أعضاء المجلس العسكري يؤدون التحية للثورة المصرية والثوار، وأعلنوا اعترافهم بها بضمان الدستور المصري الذي أقر بالثورة ..
وهي الإجراءات الشكلية التي أبهرت المصريين ودفعتهم إلى تسليم مقدراتهم ومصيرهم للعسكر متوهمين أنهم شركاء الشعب غير مدركين أن كل هذه المشاهد كانت إجراءات مدروسة لاستيعاب الثورة المصرية لحين التمكن منها والتحكم في مقدرات الأمور لتبدأ مرحلة العودة إلى السابق وتأديب الشعب على ثورته، الفرق الوحيد هو أنه من قام بهذا عام 1922 هي جيوش الاحتلال ومن قام به عام 2011 هي قيادة الآلة العسكرية المصرية.

ثورات غير شعبية

كل هذه الملابسات جعلت من الحياة السياسية ملعبا لمصالح النخب وباختلاف نواياها أكثر من كونها ملعبا لمصالح فئات الشعب وطبقاته، وإن أختلف الأمر بعد ذلك نسبيا بظهور النظريات الاشتراكية وتيارات الليبرالية، وهو أيضا ما كشف ظهوره عن تفضيل النخب الطبقية عام 1919 للتهادن النسبي مع مطالب الاستقلال والجلاء مقابل التصدي للتيارات الاشتراكية والليبرالية الصاعدة ولو حساب مصلحة الوطن.

عندما ظهر شعار يحيا الهلال مع الصليب في مواجهة المستعمر والمطالبة بالإفراج عن وكلاء الأمة، لم يكن له أي موقع من الإعراب، ففي ذلك الوقت كانت المواطنة هي المحدد الذي يحكم الأمور وليس اختلاف الأديان، كما أن المصريين كان منهم مسلمون ومسيحيون ويهود وكلهم ممثلون في الثورة، ولهذا فظهور هذا الشعار حمل معه الكثير من علامات الاستفهام حول من هم أصحاب المصلحة في تحويل قيادة الغضبة المصرية من الشارع إلى دور العبادة الإسلامية والمسيحية ووضع العقائد ضمن حسابات المواطنة، وهو الأمر الذي سبب في مصر مشكلات طائفية كبيرة استمرت حتى الآن.

دستور 1923

وحتى دستور 1923 الذي يعرفه التاريخ بأنه دستور الثورة جاءت بنوده مقيدة لحرية الصحافة والتعبير، وهو الدستور الذي أجهز على المساواة بين الهلال والصليب بعد أن أصبح الانتماء الديني جزءا من تحديد صفة المواطن بسبب هذا الشعار؛ حيث اقترح الشيخ محمد بخيت مفتي الديار آنذاك إضافة مادة “الإسلام دين الدولة”، وهو ما قوبل باستهجان واندهاش وخاصة أن الأمة كانت لا تزال تحت تأثير الليبرالية وشعار وحدة الهلال والصليب ..
وتمت الموافقة عليه بعد ضغوط كبار ملاك الأرضي الزراعية الذين كانوا يخشون من انتشار الأفكار الاشتراكية ودعاوى المساواة على مصالحهم، كما ساهم الإنجليز في فرض هذه المادة إذ كانوا يخشون من سيطرة الاشتراكيين على الحكم في مصر في ظل صعود البلاشفة للحكم في روسيا، فأوعزوا للمفتي باقتراح هذه المادة، وأشاعوا بكفر الاشتراكيين، وتم وضع هذا البند في المادة 149 من أصل 170 مادة احتوى عليها الدستور.

الشاهد أن المنهج الثوري في مصر سار على هذا النهج من انفراد نخب بتمثيل فوقي للمصالح الشعبية دون إشراك الشعب، وتحويل الصراع بين المستغلين والمحتلين وحركة المعارضة إلى مباراة ودية المنهزم الوحيد فيها هو الشعب الذي لم يتمتع أبدا طوال تاريخه باختيار حر للمعبرين عن همومه وآلامه، وتعاظم قدرة المستغلين والنظم الفاشية والمستعمر في استيعاب هذه النخب غير المحصنة بشعوبها، وهي الحالة التي نعيش حلقتها الأخيرة منذ 2011 حتى الآن وندفع ثمنها

هكذا هي الصورة بعد مرور مائة عام على ثورة 1919م وكأنها قدر «سيزيف» في الأسطورة التي فيها حكمت عليه “الآلهة” أن يظل طوال حياته حاملا الصخرة الثقيلة إلى قمة الجبل وبعد أن يصل يلقيها مرة أخرى ليبدأ رحلة شاقة جديدة يحمل فيها الصخرة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه