بعد سبعين عاما من استشهاده، ماذا تبقى من حسن البنا؟

حدثت فجوة كبيرة بين جيل النشأة، وجيل ما بعد ثورات الربيع العربي مع عدم وجود فرصة لعمل مراجعات تليق بخطورة المرحلة، فحدث الصدام.

سبعون عاماً تمر على استشهاد حسن البنا الذي تم اغتياله في الثاني عشر من فبراير/شباط 1949،  في واحد من أهم ميادين القاهرة الكبرى ، ذلك الرجل الذي كان مستهدفا بالعداوة من القصر والإنجليز والأحزاب وبعض علماء الدين مجتمعين لدعوة الإخوان المسلمين التي قلبت موازين الفكر الإسلامي في بداية ظهورها في العام 1928.
فمن المسجد إلي المقاهي، ومن مجالس العلم لساحات التدريب علي الجهاد ، ومن المدرسة إلي الشارع، ومن مجلس النواب للتربية وتحريم بيع الخمور، ومن الجامعات لمقاومة الانجليز المحتلين، ومن المطاردة علي أرض مصر لمطاردة اليهود علي أرض فلسطين، دعوة تعاون الفرقاء علي حربها في مهدها حين انتبهوا لها ، استطاع البنا في عشرين عاما هي مدة دعوته في حياته أن يبني جيلا يعيد صياغة الفكرة الإسلامية في مصر بمنهج دقيق وصفه بالشمول الذي يتوافق مع فكرته عن الاسلام الذي ( يشمل مظاهر الحياة جميعا ) ، ووسائل معلنة ومدونة حتي اليوم دون تغيير أو تبديل أو تعديل تعتمدها الجماعة في تربيتها وتكوينها لصفها المتجدد ، فنستطيع أن نقول أن الرجل قد نجح بشكل منقطع النظير حتي قبيل وفاته في تكوين الصف الذي وضع صفاته مسبقا قبل أن يكتمل ، فقد كون جماعة معظمها من الشباب الذي انطلق داخل المجتمع بالدعوة يملأ المساجد ناشرا فكره ، كما نجح في تكوين ما يشبه الجيش النظامي يشهد له التاريخ بالصمود والبسالة في تحرير أرض فلسطين ولولا خيانة الأنظمة التابعة للاستعمار الانجليزي لكان لفلسطين شأن آخر ، رجل عبقري في زمن صعب ، يضع المنهج النظري ليحوله لمنهج عملي ، ليترجمه لرجال تغير خريطة الحركة الاسلامية في مصر والعالم العربي ، فهل استطاعت الجماعة أن تحتفظ بنفس مستوي فكر المؤسس ؟ هل تحمل المناهج التربوية اليوم والتي تتجدد بشكل مستمر نفس عمق الفكرة وهل منتجها البشري بنفس خصائص الفرد وقت النشأة؟ هل استطاع التنظيم أن يحتفظ بمرونة التعامل مع الآخر وروحانية التعامل بين أفراده كما وضعه البنا رحمه الله؟

وسائل ومناهج التربية

اعتمد البنا مبدأ التربية علي أسس الاسلام الصحيح والفهم الواعي المستقي من منبع الكتاب والسنة، وذلك لتحقيق أهدافه الأساسية للجماعة وهي: تكوين الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالدولة المسلمة، فالأمة المسلمة فأستاذية العالم، ولذلك فقد أعطي لأركان العملية التربوية اهتماما كبيرا خاصة المحتوي التربوي والوسيلة التربوية

وقد اتسمت وسائل ومناهج التربية عنده بالتنوع والتجديد لتربية كوادره وأفراده كما جاء في كتاب ” رسائل البنا ” كالتالي:

أولاً: الأسرة

 واختار البنا اسم الأسرة لتوثيق عروة الأخوة بين أعضائها بوضع ثلاثة أركان لها وهي التعارف والتفاهم والتكافل ، وقد بدأ العمل بنظام الأسر في الجماعة في العام 1943 حين تم التضييق عليها أمنيا حسب ما ذكر الأستاذ عبد الحليم محمود في كتابه وسائل التربية عند الاخوان المسلمين ، والأسرة تتكون من مجموعة من الأفراد المتقاربين ثقافيا ونفسيا واجتماعيا ومكانيا يتم اختيار نقيبا ( مسئولا ) من بينهم ، ليقضوا بها فترة لإنهاء محتوي تربوي معين ينطلق كل منهم بعد ذلك للعمل بمستوي آخر من العمل بالجماعة ، ومن أهم ما يلزم الفرد به في الأسرة مدارسة أركان البيعة العشرة كما جاء في رسالة التعاليم ، والغرض التربوي من الأسرة هو التربية الشاملة وتدارس المناهج المتكاملة

ثانيا: الكتيبة

وهي الوسيلة الثانية للتربية في الجماعة يتم تنظيمها بجمع أكثر من رهط، والرهط مجموعة من الأسر، يكون الغرض التربوي منها ترقيق القلوب والسمو الروحي، تعتمد على العبادات الليلية مثل التهجد والذكر والتسبيح وتلاوة القرآن حتى صلاة الفجر

ثالثاً: الرحلة

وهي نوع من التربية الجماعية داخل التنظيم يعتمد على الرياضة البدنية وتغيير أجواء الدوائر المغلقة داخل البيوت، يغلبها التفكر في خلق الله والتعارف علي اخوان جدد، وضبط السلوكيات العامة للأفراد، يكون مكانها غالبا الحدائق أو الشواطئ

رابعا: المخيم (المعسكر)

بدأ نظام المخيمات أو المعسكرات داخل الجماعة بتكوين فرق الكشافة حيث لم يكن مسموحا بمصر أكثر من ذلك، تمت في تلك الفرق تدريبات بدنية مكثفة لإعداد الفرد المؤهل عسكريا، وظل العمل بها إلى عهد عبد الناصر فتوقفت تماما واندثرت تلك الوسيلة بشكل نهائي من وسائل التربية المعتمدة داخل التنظيم 

خامساً: الدورة

وهي تجميع لأكبر عدد متاح للإخوان لحضور مناقشات وتدريب مكثف لموضوع علمي معين، يقوم به مجموعة من الأساتذة المتخصصين فيه بغرض تعميق الوعي، سواء كان لغرض سياسي أو لظرف اقتصادي أو لتنمية مهارة الإدارة لدي مجموعة ما، أو ما إلى ذلك مما يؤثر في مسار الأمة

سادسا: الندوة

وتعني التقاء مجموعة من المتخصصين بالجماعة في فرع من الفروع للتشاور حول مشكلة أو قضية أو أمر يهم التنظيم خاصة أو المسلمين عامة، وكانت تتم في المركز العام للجماعة، تثار فيها كافة انواع القضايا العامة

سابعاً: المؤتمر

تتم المؤتمرات علي فترات متباعدة، قد تصل لمرة واحدة في العام، يحشد له بشكل كبير وتثار فيها قضايا كبري يعرضها متخصصون في مجالاتهم تهم غالب الأمة، يكون فرصة للباحثين داخل الصف لعرض أوراقهم البحثية والمشاركة في مجريات الأمور

هذا باختصار ما يخص وسائل التربية التي وضعها البنا رحمه الله بنفسه، واما المناهج التربوية فقد انقسمت بين ثلاثة تصنيفات من الكتب والمواد الدراسية لتغطي ثلاثة جوانب رئيسية في المكون الأساسي لشخصية المسلم وهي:

الإيمانية التعبدي

 والأخلاقي السلوكي

 والدعوي الحركي

ومع ثبات الوسائل التربوية، وفقدان بعضها منذ نشأة الجماعة حدثت فجوة كبيرة بين جيل النشأة، وجيل ما بعد ثورات الربيع العربي مع عدم وجود فرصة لعمل مراجعات تليق بخطورة المرحلة، فحدث الصدام، أو الفصام الذي تشهده الجماعة اليوم

ماذا تبقي من جماعة البنا؟

لسبعين عام استطاعت الجماعة بقياداتها المتتابعة وقاعدتها المتماسكة أن تعبر الكثير من المحن، بل استطاعت أن تغلق على كوادرها بابا موصدا تطبق برامجها التربوية بأقل امكانات متاحة تحت ضغط الملاحقة الأمنية، واستطاعت في ظل ذلك الانغلاق أن تعبر حدود البلاد، ليمتد التنظيم العام للإخوان المسلمين لأغلب دول العالم، رغم فقدان الجماعة لبعض وسائلها التربوية نظرا للانغلاق المفروض والعزلة التي أجبرت الجماعة عليها ونتج عن ذلك الوضع المتأزم غالبا:

ــ عدم قدرة الجماعة استحداث أي وسائل تربوية جديدة تتناسب مع تطورات العصر مما أدي لاصطدام شباب الجماعة بواقع المجتمع بعد نزول الشارع في ثورات الربيع العربي

ـــ تطور وسائل التواصل الاجتماعي مثل اضافة إجبارية لوسائل التربية لدي شباب الجماعة مما شكل وعيا آخر لديهم.

ــ توقف تطوير المناهج التربوية وتوقفها عند التلقين قتلت روح الابداع داخل المتلقي مما أدي لهروب بعض المبدعين من الجماعة وفقدان كوادر مفكرة والاحتفاظ بكل من يسمع ويطيع دون نقاش، مما ساهم أكثر في ترسيخ عقيدة الانغلاق والثبات في عالم سريع التغير

ــ اعتماد مبدأ الثقة أكثر من مبدأ الكفاءة، أدي لبقاء عقول متحجرة تحكم التنظيم وتتحكم بقراراته المصيرية مما أدي لتكرار المحن لنفس الأسباب

ـــ ملف المرأة الذي بدأت العملية التربوية عام 1934 لم تتغير قوانينه إلى اليوم منذ ذلك التاريخ، فلم تشارك في أي من المناصب القيادية أو الرسمية بالجماعة، وظلت على الهامش بينما في الحقيقة هي التي حملت الجماعة وعبرت بها أثناء المحن الشديدة بغياب الرجال في المعتقلات وقيد المطاردات، غير الجهد المبهر الذي بذلته في الثورة والانتخابات المتوالية، ومع ذلك ظلت مهمشة علي المستوي الرسمي للتنظيم

ونخلص من ذلك أن التنظيم الذي كونه الامام البنا رحمه الله ظل شكليا كما هو دون أدني تطوير، غير أنه فقد جزءا كبيرا من روحه رغم أنه يحمل داخل رحمه عوامل تطويره بما يتناسب وروح كل عصر، الجماعة التي بنيت على الشمول المنهجي والفكر العميق والابداع والاجتهاد والتجديد ما زالت تقف عند المحطة الأولي من نشأتها

باختصار، تحتاج جماعة الاخوان المسلمين كي تعود لفتوتها الأولي، لرجل كحسن البنا يحييها من جديد، فهل يخرج من تلك المحنة من يجدد لها شبابها ويعيدها سيرتها الأولي لتقوم بمهمها التي أنشأت من أجلها؟ هذا ما ستسفر عنه الفترة المقبلة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه