“بريكس” والطريق لطي صفحة الهيمنة!

تعاون أنقرة مع بنك التنمية الذي يتخذ من مدينة شنغهاي الصينية مقرا له، وهو إحدى المؤسسات التابعة لمجموعة بريكس، لكسر الضغوط الأمريكية التي تُمارس ضدها عبر الدولار.

رداً على الغطرسة الأمريكية – الأوربية تجاهها، وكسرا للعقوبات الاقتصادية الرامية إلى إخضاعها وإعادتها مرة أخرى للدوران في فلك المؤسسات المالية العالمية لاستجداء القروض، وطلب المعونات، بدأت الحكومة التركية اتخاذ أولى خطواتها العملية باتجاه البدائل المطروحة أمامها لإفشال مخطط عزلها، والقضاء على الطفرة الاقتصادية والاجتماعية لشعبها، وسعيا وراء تحقيق سياستها الرامية إلى تحرير قرارها السياسي.

  تنويع مصادر السلاح

فإلى جانب الاتفاقات التي أبرمت مع كل من روسيا والصين بهدف تنويع مصادر السلاح الذي يستخدمه الجيش التركي، وعمليات التصنيع الحالية للعديد من الاسلحة وتطوير القدرات التكنولوجية لمصانعها، والبدء في تصديرها إلى دول العالم، والتعاون مع كل من روسيا وإيران والصين في مجال الطاقة النووية واستيراد النفط والغاز.

جاء قرار أنقرة الخاص بإعلان رغبتها في الانضمام لمجموعة بريكس الاقتصادية، لتؤكد للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي أن لديها العديد من البدائل ليس فقط في مجال الدفاع والطاقة والتكنولوجيا، ولكن أيضا في مجالات الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية وحتى القروض.

  الانضمام لمجموعة بريكس

تحرُك الرئيس رجب طيب أردوغان باتجاه مجموعة بريكس، في أواخر يوليو / تموز الماضي، وإبداء رغبة بلاده في الانضمام للمجموعة، خلال مشاركته في القمة التي عقدت بجنوب أفريقيا، قبيل إعلان ترمب عن عقوباته الاقتصادية على أنقرة بأيام قليلة، كان بمثابة رسالة واضحة لكل من يهمه الأمر مفادها أن أنقرة تدرك ما يحاك ضدها من مؤامرات في الخفاء، وأنها ليست عاجزة عن الرد المناسب، في الوقت المناسب، وأنها صاحبة سيادة وقدرة على اتخاذ ما تراه مُلائما لمصالحها وأن لديها تحالفات يمكن أن تكون بدائل جيدة عن الغرب.

 رغبة تركيا التي لاقت ترحيبا من روسيا والصين، رفعت وتيرة القلق الأمريكي والأوربي، اللذينِ استشعرا الخوف من أن تُمثل تلك الخطوة التركية بداية النهاية الفعلية لمرحلة الهيمنة الأورو- أمريكية على مقدرات دول وشعوب العالم، خاصة إذا ما مثل التعاون التركي – الروسي – الصيني نموذجا ناجحا يمكن أن يُطبق بين العديد من دول العالم الأخرى؛ المستهدفة أيضا من جانب واشنطن والاتحاد الأوربي، أو أن ينضم إلي ذلك التجمع دولا أخري لديها القدرة على زيادة فعاليته الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية كإيران مثلا، بعد أن اقترحت الصين مؤخرا مبادرة بريكس بلس، التي تتيح لدول تمتلك قدرات مثل تركيا، على التعاون مع دول المجموعة، الأمر الذى يعني في حال حدوثه، خلق تكتل اقتصادي سياسي عسكري، لديه القدرة على المنافسة والتصدي لمحاولات التلاعب باقتصاديات الدول الأعضاء به، ومساعدة الدول الأخرى على مواجهة التهديدات والعقوبات التي يمكن أن تُفرض عليها.

أنقرة تتعاون مع بنك التنمية الذي يتخذ من مدينة شنغهاي الصينية مقرا له، وهو أحد المؤسسات التابعة لمجموعة بريكس، لكسر الضغوط الامريكية التي تُمارس ضدها عبر الدولار، والسعي للاتفاق على استخدام العملة المحلية التركية في تعاملاتها الاقتصادية مع دول المجموعة، إلى جانب الاتفاق مع الصين – التي تعاني هي الأخرى من عقوبات اقتصادية أمريكية عليها – على إنشاء محطتين للطاقة النووية.

هذا التعاون يعنى أن أنقرة لم تعد بحاجة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين يتحكمان في الاقتصاد العالمي بقرارات أمريكية وأوربية.

   صوت المظلومين بالعالم

خطوة تركيا باتجاه مجموعة بريكس، لم تأت فقط في إطار الرد على العقوبات الاقتصادية الأمريكية، ولا هي مجرد محاولة للخروج من سطوة الهيمنة الأوربية – الأمريكية ، وإنما جاءت لأسباب أخري متعددة، منها الرؤى المشتركة التي تجمع بين أنقرة ودول المجموعة في الكثير من القضايا الدولية، مثل رفض المعايير المزدوجة، وفرض العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب بلا ضابط ولا رابط بهدف الإجبار والإكراه، ووضع سياسات الحماية التجارية بلا ضوابط محددة، إلى جانب المنافسة غير الشريفة، والرفض المطلق لحل النزاعات الدولية بالقوة العسكرية أو التهديد بها .

إلى جانب رغبة أنقرة في القيام بدور أكثر أهمية وفاعلية على الساحة الدولية، من خلال تقديم المساعدة والمشورة التي تساهم في تحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي للعديد من دول العالم الثالث، وهو ما جاء في تصريحات رسمية لوزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو الذي صرح قائلا: “رغم حملات التضليل التي تستهدفنا، ما زلنا إحدى أنسب الدول في العالم للاستثمار، وسنتخذ خلال الفترة المقبلة خطوات وقرارات فاعلة لتحقيق الطفرة الاقتصادية التي ننشدها. مشددا على ان بلاده ستكون من أقوى دول العالم اقتصاديا، وأنها ستكون دوماً صوت المظلومين في هذا العالم.

لتبرهن تركيا بذلك على مدى قوتها وقدرتها على الصمود والتصدي لمحاولات عرقلة صعودها اقتصاديا وسياسيا بصورة عملية، تتعدى حدود التصريحات والتهديدات، والشماتة التي اتسم بها الخطاب الرسمي الامريكي، إذ بات من الواضح ان التصريح الذى أدلى به الرئيس التركي حينما هدد بقطع علاقات الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، وتأكيداته المتكررة بشأن الرد على الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة ضد بلاده عبر التوجه صوب أسواق جديدة، كان تعبيرا دقيقا عن التحركات والخطوات الفعلية التي تقوم بها تركيا وليس مجرد تصريحات رنانة تتناقلها وسائل الاعلام هنا أو هناك.

صدق أردوغان إذا في كل كلمة قالها منذ بدء الأزمة مع واشنطن، خصوصا ذلك التصريح الذي قال فيه: “من الحماقة الاعتقاد بأن دولة مثل تركيا يمكن أن تتعثر خططها التنموية وتتوقف مشاريعها الاقتصادية جراء تقلبات سعر صرف العملات الأجنبية”. واستطاع الخروج منتصرا في معركة اتسمت بالغباء السياسي من الجانب الأمريكي الذي غابت عن قراراته الاستراتيجية الممنهجة في التعاطي مع المشاكل والخلافات الدولية، وبدا واضحا أن لديه اندفاعا غير مبرر باتجاه خلق أزمات وزيادة حدة العداء مع دول المفروض أنها حليف استراتيجي لبلاده.

  تكتل اقتصادي سياسي

ولكن ماهي مجموعة بريكس، التي أصبحت أمل دول العالم الحر في إنهاء عصر الهيمنة والسطوة الأورو- أمريكية على مقدرات ومستقبل الشعوب؟ ولماذا يمثل وجودها وزيادة قوتها تهديدا حقيقيا، وتحديا لمكانة الولايات المتحدة الامريكية عليها مواجهته؟

بريكس هى أحدث تكتل اقتصادي سياسي ثقافي، تأسس في العالم 2006 ويضم 5 دول حتى الآن هى البرازيل، روسيا،الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، ويستمد اسمه من الأحرف الأولى للدول المؤسسة، ويهدف إلى تعزيز سبل التعاون لتحقيق المصالح المشتركة للدول الأعضاء، والتي من أهمها العمل على تشكيل نظام اقتصادي متعدد الأقطاب لديه القدرة على الصمود في مواجه الأزمات الاقتصادية العالمية، والدفاع عن مصالح أعضائه ضد أية هزات محتملة، إلى جانب العمل على إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، والابتعاد به عن الأحادية القطبية، وتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب يخدم الخطط التنموية لدول العالم المختلفة بما يحقق لشعوبها الرفاهية والرخاء،  ويمنحها القدرة على مواجهة المخاطر.

وهو فعليا يمثل تهديدا حقيقيا لمكانة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوربي بما يمثله من قوة اقتصادية سياسية عسكرية من شأنها أن تعيد رسم خريطة القوى العالمية، وإنهاء سياسة القطب الواحد الذي يحكم ويتحكم في دول العالم، وفق مصالحة الخاصة وبما يؤمن له استمرار سطوته وهيمنته على مقدرات الشعوب.

القلق من مجموعة بريكس لدى واشنطن والاتحاد الأوربي يكمن في قوتها الديموغرافية حيث يقطن مجموعة بريكس حوالي 3 مليارات نسمة، بما يمثل حوالي 42% من سكان العالم، كما تحتل هذه الدول الخمس مساحة تقدر بحوالي 40 مليون كلم مربع أي ما نسبته 30% من مساحة الكرة الأرضية، فيما يبلغ رأسمالها حوالي 200 مليار دولار، يتم توظيفها في عدة مشاريع مشتركة عملاقة، وبلغ الناتج المحلي لدول بريكس عام 2016 حوالي 16.5 تريليون دولار بنسبة 22.5 تقريبا من حجم الإنتاج العالمي.

بينما تحتل اقتصاديات دول بريكس مراكز متقدمة على الصعيد العالمي، إذ يأتي اقتصاد الصين في المركز الثاني عالميا، والهند المركز الرابع، وروسيا المركز السادس، بينما تحتل البرازيل المركز التاسع، وجنوب أفريقيا المركز الخامس والعشرين.

قوة عسكرية ونووية

ورغم التباعد الجغرافي بين دول المجموعة، فإن ذلك لا ينفي احتلالها مواقع استراتيجية هامة على الخريطة الدولية، وتتوفر لديها موارد متعددة تمنحها تكاملا مهما في مجالات حيوية كالمواد الأولية والموارد البشرية والطاقة التي يبلغ حجم إنتاجها في دول المجموعة ما يمثل حوالي 40% من الإنتاج العالمي.

أما حجم الإنفاق العسكري لدول المجموعة فيقارب حوالي الـ 11% من حجم الإنفاق العسكري الدولي، ولديها طموحات ترمي إلى زيادته عبر توسيع قاعدتها الصناعية العسكرية وتطوير قدراتها، إلى جانب زيادة حجم تمويل أبحاثها التكنولوجية، والأخطر في هذا الأمر على وجه الخصوص هو امتلاك كل من الصين والهند وروسيا لحوالي 3060 رأسا نووية بما يمثل 52% من حجم الرؤوس النووية العالمية.

نظام متعدد الأقطاب

سعي دول المجموعة لزيادة حجم التعاون التقني بينهم، والعمل على إنشاء كابل إنترنت خاص بهم يقيهم عمليات التجسس الأمريكية، وخفض حجم التعاملات الدولارية فيما بينهم وخلق عدد من المؤسسات المالية لتعزيز التعاون وتنسيق الخطط التنموية بينهم لضمان زيادة قوتهم الاقتصادية على الساحة الدولية.

بالإضافة إلى التحرك بصورة مشتركة وتشكيل مواقف موحدة فيما يخص القضايا الدولية، مثل مكافحة الإرهاب، وفق قرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن، وتسوية النزاعات عبر التفاوض، كالأزمة السورية والملف النووي الإيراني، من شأنه كسر الهيمنة الأمريكية والأوربية على النظام العالمي، ووضع مخطط لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يخدم مصالح كل دول العالم، ولا تستقوي فيه الأقلية على مقدرات الأغلبية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه