بريد الليل تليق بـ “البوكر”!

 

بريد الليل نوفيلا (قصة طويلة) لا تتجاوز 129 صفحة صادرة عن دار الآداب للروائية اللبنانية هدى بركات، وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام. مع ثلاث روائيات توزعن جغرافياً على سوريا والعراق والأردن.

اعتمدت هدى بركات في بناء قصتها على رسائل متفرقة لا رابط بينها سوى تسلسل من وجدها وسرد محتواها، تركها أصحابها في أماكن متفرقة، الأوّلى تركها الشاب في خزانة فندق، وقعت في يد “حبيبة” تنتظر حبيبها القديم، بدورها كتبت رسالة ثمّ رمتها في سلة المهملات في قاعة المطار حيث تواجد بالصدفة رجل قاتل يريد الفرار يلمحها ويأخذ الرسالة من الحاوية يقرؤها لنا ويكتب رسالة لأمّه يعترف فيها بجرائمه، قبل أن يقبضوا عليه يحشر الرسالة في زاوية مقعد الطائرة تعثر عليها مومس تعمل في المطار تنظف الحمّامات، ترويها لنا ثمّ تكتب رسالتها إلى أخيها المسجون بسبب دفاعه عن شرفها وتخفيها في خزانة بالبار حيث عثر عليها شاب مثلي يقوم بسردها ومن ثمّ يكتب رسالة لوالده يطلب فيها ثمن تذكرة للعودة من بلاد الغربة. لم تحدد الكاتبة اسم مكان الاغتراب.. كما لم تحدد البلاد التي جاء منها هؤلاء ما عدا شخص واحد سمّته “الألباني” نسبة إلى بلاده.

هل هي لعبة بازل أرادت الكاتبة من القارئ أن يلملم أجزاءها ويعيد تركيبها ليخرج بصورة متكاملة يستكشف من خلالها رؤيتها الفكرية المتعلقة بالقتل والتّشريد؟ وهل أرادت رصد انكاس القتل والتّهجير على الكائن الإنساني الضّعيف بغض النّظر عمّن تسبب في ذلك؟ لكن الواضح أن القارئ – حتّى النخبوي- لن يتمكن من تركيب هذه الصّورة لا لقصور في فهمه وإنّما لغياب الكثير من الأجزاء الضرورية لاستمرار اللعبة، لعلّ أهمها غياب المكان وغياب الإطار، سيفهم القارئ أنّ المهجرين في البحر من سوريا لكنّ الكاتبة لم تذكر اسم سوريا مطلقاً وهي تتحدّث عن شخصيات كلّ حدث يجري معهم يشير إلى أنّهم سوريون، فهل تغييب اسم سوريا عن المشهد يعكس نوعاً من التّعالي الفينيقي مثلاً؟ أم هي محاولة لتمويه الحقائق؟

والسّؤال المهم الذي يطرح نفسه لماذا لم تذكر نظام الأسد من حيث كونه المسؤول الأول عن القتل والتّهجير بدل التّلميح والتّلويح باسم داعش الذي يخلق الوهم مباشرة بأنّها السّبب، وهذا يضعنا أمام استنتاج واحد لا غير وهي محاولة تزوير الحقائق إذ لا يمكننا اتّهام الكاتبة بأنّها لا تعرف ما الذي يجري في سوريا خاصّة وأنّها ابنة لبنان الذي يعيش الحدث السّوري ويشارك فيه بقوة.

من ناحية أخرى. لماذا أكّدت هدى بركات على الأسباب التّربوية والنّفسية وأوجدت المبررات للقاتل الذي قام بتعذيب المعتقلين حتّى الموت وأصرّ على عدم معرفة مصيرهم فهو لا يقوم بعملية الدفن والأرشفة هو فقط يقتل وهناك من يقوم بباقي المهمة! هل يعني ذلك أنّ الذين يقومون بتعذيب المعتقلين هم أشخاصٌ مرضى يجب استيعابهم وعلاجهم؟ وهل يوجد قاتل يعترف بجريمته بهذه البساطة ويكتبها في رسالة ويمتلك هذه اللغة التحليلية الفلسفية؟ أم أنّها أرادت بذلك الإمعان في الابتعاد عن الأسباب الحقيقية التي أدّت لارتكاب هذه الجرائم فهم جميعاً مرضى يجب علاجهم نفسياً وعدم تحميلهم جريرة أفعالهم، فهكذا يتصرف المجتمع المدني المتسامح حتّى لو تجاوز عدد الضحايا المليون إنسان، وحتّى لو تمّ تهجير عشرة ملايين إنسان، على مبدأ من أطلق رصاصة على خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الذين يقومون بالتّعذيب والقتل هم أشخاص أسوياء، التّوحش ليس صفة مَرَضية، المحقق الذي عذّب ابني أثناء اعتقاله كان يسمع فيروز، ويقرأ كتباً، وله أولاد وزوجة ويعيش حياته بشكل طبيعي، لم يكن مريضاً نفسياً.. بل كان متوحشاً، حدود إنسانيته تتوقف عند عائلته فقط.

النص الروائي:

في المبنى القصصي لن نجد خطاً درامياً ناظماً للحكايا، كما لن نجد ما يربط الشّخصيات ببعضها البعض وكأنّما كُتب النّص على عجل، وجاء اختيار الكاتبة لتقنية الرسائل والبريد المنقطع كمنقذ وكحلٍ لغياب الخطّ الدّرامي وبواسطة هذه التّقنية تمّ جمع قصص متفرقة لا رابط بينها سوى مضمونها الذي يتناسب وآليات استقبال الغرب لأدبنا العربي، فثمّة قتل وداعش وثمّة محقق قاتل ومرض نفسي وثمّة جنس ومثلية وافرة.

والرواية مليئة بشحنة سوداوية تتعب القارئ وتسدّ أفق التّخييل في وجهه، كما حافظت على نسق لغوي واحد وحسّ ميلودرامي عالي اتسمت به كلّ الشخصيات حتّى تكاد تكون نسخة واحدة مكررة!

قسمت الكاتبة النص إلى ثلاثة أقسام. الأوّل جمعت فيه رسائل الشّخصيات التي قدّمت لنا تجاربها الحياتية. وكان قسماً معقولاً إلى حدّ ما ثمّ جاء القسم الثاني ليكسر الإيهام في النّص، بتقديم الصّورة المقابلة لكلّ صورة سابقة، وهذا ما قلت عنه إنّه فشل في التّجميع فقد نتج عنه صورة مشوهة.. فتحدّث الأخ السّجين مثلاً عن أخته ذاكراً المعلومات التي حكتها هي في القسم الأوّل من الرواية من وجهة نظره.. ولم يقدم لنا شيئاً جديداً على صعيد الحدث!

القسم الثالث قسم “موت ساعي البريد” هو أجمل قسم في الرواية لو اعتُمد على أنّه نص مستقل أو قصة مستقلة لا علاقة لها بما سبق.

وبالرغم من كون الرواية واقعية وتحكي أحداثاً طازجة إلا أنّها لم تكن مقنعة.. لا يوجد تسلسل في الأحداث، لا يوجد منطق في تداول الرسائل.. لو أنّ الرواية اعتمدت العجائبية أو كانت رواية متخيلة كنّا سنقبل كقرّاء عدم المنطقية في الحدث وعدم الربط بين الشخصيات.

الشخصيات

اختارت هدى بركات نماذج من المهاجرين إلى دول اللجوء غارقة في مشاكلها “القتل والدّعارة والخيانة والمثلية” وتركت تلك الشّخصيات تتحدّث عن ماضيها بما يبرّر أفعالها الحالية في دول اللجوء.. السّرقة والدّعارة والقتل واللواطة.

وكأنّ هدى بركات اختصرت اللاجئين وأسباب لجوئهم بمشاكل شخصية ولم تقترب من السبب الرئيس في الهجرة وركوب البحر والمغامرة بالروح.. فليس في روايتها حاكم مستبد يقتل ويرتكب المجازر ويهجّر أبناء شعبه ليبقى على كرسيه.

بل هناك شخص قام بتعذيب الآخرين في السّجون كي ينجو هو من التّعذيب، شخص برّر كلّ شيء فعله بالعنف الذي مارسه عليه والده في الصّغر.

امرأة تبيع جسدها في بلاد اللجوء كي ترسل مالاً لأمّها التي تعتني بابنتها لكنّ أمّها تبيع ابنتها لرجل من دول الخليج ليستغلها أيضاً في الدّعارة!

أخ قاتل.. أم تدفع ولدها بعيداً رافضة تربيته بحجة أنّه سيجد فرصة أفضل في المدينة.. وشاب مثلي يبرر عشقه للرجال.

في نهاية المطاف يمكن القول إنّ هذا النّص السّردي يوحي بأنّه كتب على عجل وبما يتناسب ومقاييس الجوائز، وبالمنطق الذي يفضّله الغرب في اختيار الأعمال التي تترجم إلى لغاته، فحفلت بالشّخصيات المهووسة “المثلي، المومس، القاتل”.. وطُعِّمت بألفاظ جنسية، وهاجمت داعش، وحمّلتها مسؤولية الكوارث التي تحدث للبشر.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه