بدون القرضاويّ؛ الاتحاد العالميّ والتّحدي الأكبر

 

 

“سأسلّم الرّاية للأخوة وربّما أنّها آخر مرّة أتكلّم فيها إليكم في الجمعيّة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”. بهذه الكلمات أعلن العلّامة يوسف القرضاوي دخولَه في الغياب عن مسيرة الاتحاد العالميّ.

 في فندق غراند جواهر في إسطنبول ينعقد مجددًّا مؤتمر الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ ‏هذا المؤتمر الذي ينعقد كلّ أربع سنواتٍ وتلتئم فيه الجمعيّة العموميّة للاتحاد لمناقشة ‏وتقييمِ مسيرة وإنجازات دورة ماضية وإجراء انتخابات تشمل مجلس أمناء الاتحاد ‏المكوّن من واحدٍ وثلاثين عضوًا، وانتخاب رئيس الاتحاد الذي ما زال الإمام يوسف ‏القرضاوي على رأسه منذ تأسيسه عام 2004م.

  • استمرار الحضور وتوسيع الأثر وتعميق الفاعليّة

القرضاويّ الذي بلغَ الثالثة والتسعين من عمره كان يتمتّع ‏بصحّةٍ جيّدة رغم كلّ ما يحمله من أعباء السنين على كاهله؛ غير أنّ السّنة الأخيرة التي اعتقلت ‏فيها ابنته من قبل نظام السيسي جعلته يكبر تسعين سنةً إضافيّة، فلقد هدّه وكسرَ ظهرَه الظّلم الذي وقع على ابنته؛ فما أبشع الطّغاة ‏حين يعاقبون معارضيهم ببناتهم؛ فكيف إن كانت هذه البنت قد صارت جدّة ذات أحفاد، وتعتقل ‏في ظروف بالغة السّوء في زنزانةٍ انفراديّةٍ وذلك فقط لأنّها ابنة القرضاوي!!‏

فصحّة الإمام القرضاوي وتقدّمه بالعمر ومرضه الشّديد؛ كلّ ذلك كان السّبب الرّئيس في تسليمه الرّاية في عموم المؤسسّات التي يترأسها ويشرف عليها وأبرزها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وبعده مباشرة سينعقد المجلس الأوروبيّ للإفتاء الذي أسسه القرضاوي وما زال يترأسه؛ وفي يوم الجمعة القادم سيعلن القرضاوي دخولَه في الغياب عن مسيرة هذا المجلس أيضًا.

والمرشّح الأقوى لخلافة الإمام القرضاوي على رئاسة الاتحاد كما يلوحُ في الأفق ‏هو العالم المقاصدي المغربي أحمد الرّيسوني.‏

ورغم أنّ الاتحاد يضمّ قاماتٍ وأسماء كبيرةً من العلماء من مختلف بلاد العالم الإسلاميّ؛ إلَّا أنّه ‏لا يمكن لأحدٍ منهم أن يسدّ الفراغ الذي سيحدثه غياب العلامة القرضاوي عن ‏الرّئاسة.‏

هذا الغياب يضع الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين في مواجهة التّحديّ الأكبر هو استمرار حضور المؤسّسة وتوسيع تأثيرها وتعميق فاعليّتها.

  • التّماهي بين المؤسّسة والرّمز

إنَّ من أخطرَ ما تعاني منه كثيرٌ من المؤسسات والكيانات هو حالة التّماهي بين المؤسّسة ورمزها، وبين الكيان والشّخص؛ مما ‏يجعل المؤسسة حاضرةً في الأذهان ملازمةً لرمزها؛ وتنطبع على إثر ذلك قناعة الملازمة بينهما في المصير؛ حتّى إذا غاب الرّمزُ تغيب المؤسسة ‏ويذوي الكيان.‏

وفي العقل الجمعي عند عامة النّاس اليوم فإنَّ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يعني العلّامة القرضاوي؛ فهو ‏الاتّحاد والاتّحاد هو.‏

وهذا وإن كانت تفرضه مكانة الرّمز وسعة تأثيره وقوّة حضوره؛ غير أنّه يضع المؤسّسة في معضلةٍ ‏تتعلق بزلزلة وجودها واهتزاز كيانها وتراجع دورها وخفوت وهجها.

  • ‏من يسدّ الفراغ؟

لا يستطيع أحدٌ أن ينكر بأنّ مواقف الاتحاد العالميّ اكتسبت الكثيرَ من تأثيرها وقيمتها ‏والاهتمام بها بالدّرجة الأولى من شخصيّة القرضاوي وقيمته ورمزيّته، مما يفرض على الاتحاد ورئيسه ‏الجديد السّعي للحفاظ على مستوى التأثير وعدم الرّكون إلى الحال السابقة واستصحابها إلى المستقبل، وهذا يتطلّب من التّشكيلة الجديدة جهدًا استثنائيًّا ونوعيًّا.

ولستُ أبالغُ إن قلتُ بأنَّ من يمكنه سدّ فراغ العلّامة القرضاوي ليسَ فردًا مهما بلغت مكانته العلميّة وإمكاناته التأثيريّة؛ بل إنَّ مَن يمكنه سدّ الفراغ هو مؤسّسةٌ قائمة الأركان راسخة البنيان متضافرة الجهود.

  • آليّات مواجهة التّحدّي

 إنّ أهمّ ما ينبغي على الرّئيس الجديد فعله لمواجهة هذا التّحدي أمران أحدهما متعلّقٌ بالبناء والثّاني بالمواقف والمُخرَجات.

فأمَّا الأوّل فهو النّظر العميق في بنية ‏الاتحاد وهيكليّته، واستخلاص الرّئيس فريق عمله بعيدًا عن المحسوبيّات القُطريّة واسترضاء الخواطر، وبناء لجانه الفرعيّة والتّخصصيّة بما يضمن لها الحياة والاستمرار، واختيار الفاعلين الأكفاء من أهل التّخصص، والمزج بين الطّاقات الشّبابيّة وبين العلماء كبار السّنّ، ويكون تمتين الهيكلية العامة للاتحاد كذلك بتوسيع قاعدة المشاركة في اتخاذ القرارات وإشعار الأعضاء بدورهم في صناعة مستقبل ومكانة الاتحاد.

 والأمر الثّاني فهو الوقوفُ مليًّا أمام آليّات اتّخاذ المواقف والفتاوى الصّادرة عن الاتّحاد من حيث الشّكل ‏والأسلوب، وإنّ مواكبة الوقائع بمبادرة وسرعة، واتخاذ المواقف الواضحة بجرأة ودون مواربة؛ وإنّ التقدّم حيث يحجم الناس، والإقدام حيث يخاف النّاس، والقول حين يصمت النّاس، وتحمّل مسؤولية الموقف؛ هو ما تنتظره الجماهير المتّعطّشة للمرجعيّة وهو ما يحتاجه الاتحاد في سعيه لسدّ الثّغرة التي سيحدثها غياب العلّامة القرضاوي.

  • ‏مُعيناتٌ في الطّريق

وممّا يعينُ الرئيس الجديد ومن معه في الفريق الجديد على تجاوز هذا التّحدّي هو أنَّ الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين أكثر كيانٍ مؤهّلٍ للقيام بواجبات العلماء على المستوى المؤسسي؛ فلديه من سعة الانتشار وكثرة الأعضاء وتنوّعهم ما يجعله الأقدر على مواكبة الوقائع المتسارعة على مستوى الأمة الإسلاميّة، وبيان الموقف الشرعيّ منها دون سطوة للأنظمة القمعية والاستبدادية على قراراته، وكذلك الاستناد على ما يحمله الاتّحاد من ذخيرة في المواقف المفصليّة الشّجاعة من الأحداث وأهمّها مواقفه الواضحة من خيارات الشعوب في مواجهة الظلم والاستبداد، وتأييد ثورات الشّعوب ضدّ الطّغاة المجرمين، وكذلك فإنَّ عداوة الكثير من الأنظمة في المنطقة للاتّحاد ومحاربته وملاحقة أعضائه ومحاولات الترهيب المستمرة من خلال وصمه الدائم بالإرهاب يمكن أن تكون من النقاط المهمّة التي ينبغي استثمارها لاستدامة التأثير والفاعليّة رغم ما فيها من ألم ومتاعب.

  • شخصيّة الرّيسوني .. مؤهّلاتٌ وفرص

وممّا لا شكّ فيه بأنّ العالم المقاصديّ المغربيّ د.أحمد الرّيسوني البالغ خمسًا وستّين سنةً من العمر في حال تم انتخابه رئيسًا للاتّحاد؛ يحمل مقوّمات التأثير الكبيرة؛ فهو من أبرز العلماء على مستوى العالم الإسلاميّ في علوم الشريعة وأحد أهم المراجع في علم المقاصد، ويجمع إلى ذلك جرأة كبيرة في الإفصاح عن الموقف الذي يقتنع به مع تاريخ وحاضر يشهد له بمواجهة الطغيان والاستبداد ومجابهة الظلم؛ وكلّ هذه مقوّمات تسانده في مهمّة كبيرة لكنه لن يستطيع تحقيقها بمفرده كما كان يحققها القرضاوي من قبل.

وللرّيسوني فرصةٌ كبيرةٌ في استثمار القبول العام الذي يحظى به في أوساط العلماء والدّعاة من مختلف التوجّهات والأعمار في إعلان نفيرٍ عاجلٍ لبناء المؤسسة من جديدٍ وتدارك مواطن الترهّل والخلل التي تعاني منها.

وهناك تحدٍ مهمّ يواجه الرّيسوني في مهمّته القادمة يتعلّق بمواقفه من السّعوديّة، فهو من الأسماء القليلة جدًّا التي فتحت النّار بشكلٍ غير مسبوق على نظام الحكم في السّعوديّة، وهذا الموقف سيزيد من حدّة عداء النّظام السّعودي والتّابعين له للاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين، كما سيكون مؤثّرًا في تحرّج الكثير من الأجسام والشّخصيات التّي ما تزال تحتفظ بهدوء الجبهة مع السّعوديّة من التعامل والتّعاون معه.

غير أنَّ بإمكان الرّيسوني أن يحوّل هذا التّحدي إلى فرصةٍ في هذه الفترة التي يعيش فيها النّظام السّعودي أسوأ مراحله منذ تأسيس المملكة، وذلك من خلال مواقفَ مبدئيّةٍ واضحةٍ صريحةٍ من أنظمة الاستبداد كلّها والنّظام السّعوديّ منها، لكن مع تجنّب الدّخول في أيّ محورٍ من محاور في الصّراع الخليجي الخليجي، أو الانحياز لنظام سياسيٍّ دون سواه، وإنّما الانحياز لمبدئيّة الحقّ وقصيّة العدل ومواجهة الطغيان والإجرام ومصدره ومنبعه، وهذا يحتاج إلى توازن كبيرٍ في الخطوات القادمة وحكمةٍ بالغةٍ في التّعاطي ” وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا”

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه