انقلاب يوليو والسبع العجاف

وليس هناك أقدر على تفنيد الكذب من الإنسان المعذب، الذي يكد ويجتهد، لتدبير ما يبقيه على قيد الحياة، وأصبحت الديون والغلاء يحيطان به كالحيطان، ويتردد على ألسنة الكافة “أنا باكح تراب”

اليوم هو الثالث من يوليو المتمم للسبع العجاف، التي عاشتها مصر بعد الانقلاب الذي حدث في مثل هذه اليوم قبل سبع سنين، مرت كَسِني يوسف!

بدأت القصة بالكذب المشفوع بالأيمان الباطلة بداية من “والله ليس لنا أي طمع في حكم مصر”، ومصر أم الدنيا وها تبقى أد الدنيا“.

وغدا لكل مرحلة شعارها من الكذب الجديد، وأصبح الشعب كلاعب القمار، أو المنقب عن الآثار، كلما نزلت به خسارة، أو حلت به مصيبة تمسك بالتي تليها، أملا في تعويض الأولى، وهكذا حتى تبلد حسه، وأصبحت الخسائر هي حاضره وأمسه!

لكن الكذبة الأخيرة، أصبحت بَلْقَاء مشهورة، لأن السيسي حدد فيها يوما بعينه، في سنة دون غيرها، وأن مع حلول 30. 6. 2020 ستصبح مصر دولة أخرى، وفي مكانة ثانية!

الجميع يعلم أن كل هذا الهراء، استهلاك للوقت وتخدير لمشاعر البسطاء، ولا يحتاج المواطن البسيط إلى التنظير والتقعيد، لبيان ما يحيط به من خطر، وأن “البعيد” كذاب أشر، فهو يَعرف من حاله، ما هو أبلغ من أي مقالة، وليس هناك أقدر على تفنيد الكذب، من الإنسان المعذب، الذي يكد ويجتهد، لتدبير ما يبقيه على قيد الحياة، وأصبحت الديون والغلاء يحيطان به كالحيطان، ويتردد على ألسنة الكافة “أنا باكح تراب“!

أما عن ديون الخارج فقد أثقلت الكاهل، ورهنت المستقبل، وكبلته بأغلال الربا، وشروط صناديق التمويل الدولية، التي هي سلطة احتلال في صورة اقتصادية، وليت هذه الديون كانت في سد جوعة الفقير، أو في إصلاح منظومة الصحة والتعليم، وإنما وجهت لبناء القصور المشيدة، والعواصم الجديدة، في بلد مرت به كل الحضارات، وزخرفت فيه كل العمارات، وبُني فيه من القصور على مر العصور، ما لو جمع لكوَّن جمهورية القصور التاريخية.

يدرك المصريون أن بلادهم تغيرت فعلا في هذه السبع العجاف، فأصبحت بلا تيران وصنافير الجزيرتين المصريتين، اللتين تنازل عنهما السيسي للمملكة السعودية، ليصبح مدخل خليج العقبة مياها دولية، وبوابة للتطبيع مع الصهاينة المحتلين.

استحضار عبد الناصر

ومن باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت، فإن الأبواق الإعلامية تستحضر صورة جمال عبدالناصر عند الترويج للسيسي، وبما أن موقف عبدالناصر ثابت من تيران وصنافير، ومثبت بالصوت والصورة، لجأوا إلى إحدى بناته، التي تذكرت بعد خمسين عاما من موت أبيها، أنها وجدت قصاصة في ثيابه توصي بعدم أحقية مصر في الجزر، وبذلك أصبحت مقدرات الدول، وسيادتها على ترابها لعبة في أيدي هؤلاء وأولادهم!

ما فعلته بنت عبد الناصر، وطار به إعلام السيسي فرحا يدلك على الطريقة التي تدار بها الدولة المصرية الآن، وبالمناسبة لم نسمع صوتا للناصريين تجاه ما فعلته بنت الزعيم!  

فاجعة تيران وصنافير، لا تقارن مع كارثة سد النهضة والتفريط في مياه النيل، لأن الجزر في مكانها، وعاجلا أو آجلا ستعود الأرض إلى أصحابها.

أما ما يحدث في شريان حياة المصريين، فهي قضية حياة أو موت حقيقية، والسيسي ونظامه يتعاملون مع الملف على طريقة من أغلق النافذة، لئلا يعلم بدخول وقت الفجر حتى يتناول السحور، حيث اعتبر أن منع شعاع الفجر من دخول غرفته، وحبس الظلام بين جدرانها، سيغير حقيقة الفجر الصادق!  أصبح السيسي يتابع ملف سد النهضة من خلال ما تكتبه أقلام النفاق، وما تعلنه أبواق الارتزاق، التي صورت توقيع السيسي على إعلان المبادئ مع إثيوبيا في السودان في 2015 على أنه الحل الميسر، والنصر المؤزر، والحقيقة أنه تفريط في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وتحقيق لأحلام أثيوبيا بما لم يكن يخطر لها على بال، وهو ما تتبجح به الآن. ولسنا بحاجة للتذكير بما حدث في واقعة طلب حلف اليمين من رئيس وزراء إثيوبيا، التي تكفي لعزل الجنرال سياسيا وصحيا، والحجر عليه، لأن خطره ليس على نفسه، وإنما على مئة مليون تسلط على رقابهم.

وعندما قرر السيسي ونظامه إخراج رؤوسهم من الرمال، والتخلي عن سياسة النعام، لجأوا لحيلة العاطل، وسلاح الضعيف، فتقدموا بشكوى إلى الأمم المتحدة، التي أحالتهم إلى الاتحاد الأفريقي الذي تملك فيه إثيوبيا التعاطف الكبير.

اغتصاب بالتراضي

وتيرة الأحداث الأخيرة، ومحاولة نظام السيسي التغطية على موضوع أثيوبيا بملف ليبيا، جعلني أقرب إلى الاقتناع بالنظرية القائلة بأن الأمر ليس فشلا في إدارة ملف سد النهضة، وأنه لم يكن اغتصابا، وإنما وقع بالتراضي، والقانون لا يعاقب على الجريمة في حالة رضى الطرفين، وأن السيسي قبل بوصف الفشل، خوفا من انتشار عار السِفَاح، وهذا كله برعاية النظام اللقيط، الذي يسعى لتحقيق حلمه في وصول مياه النيل إلى الأرض المحتلة في فلسطين، وأن ما يحدث من تجريف سيناء، وتهجير أهلها مقدمة لذلك.

لو غاب عن المواطن البسيط الإلمام بتفاصيل هذه الخيانة، فهو يعيش جائحة كورونا وتفاصيلها الموجعة، وكيف يتعامل نظام السيسي معها، حتى بعض السيساوية الذين لا أمل في علاجهم، مستهم نار الأزمة، وضجوا من هول المصيبة، لمَّا تعرضوا هم وأقاربهم للموت، نظرا لانكشاف المنظومة الصحية، وعدم قدرتها على مكافحة الوباء، وأن بصيص الأمل المتمثل في الجهد البشري، الذي يبذله الأطباء والطواقم المعاونة، قوبل بالازدراء والاعتداء، بل وصل الأمر إلى الاعتقال والإخفاء.

مصر خرجت من تصنيف الدول، وأصبحت عزبة تدار من عصابة، أو ثكنة استولى عليها متمردون، والجميع يعرف هذه ويدركه، ومن لم يصبه ناره، خنقه دخانه!

والجميع يدرك أن ما يقدمه الإعلام، هو عمل نظير الأجر الذي يدفع بالملايين، وأن الأبواق الفضائية ما هي إلا صورة حديثة من “إذاعة صوت العرب” و “صوت أحمد سعيد”، ولا يصدقهم إلا نزر يسير من المغرورين والمنتفعين، وحسب هؤلاء ما قاله الشاعر:

ستعلم حين ينقشع الغبارُ/ أخيل تحت رحلك أم حمارُ

الكل يعرف الحقيقة، لكن سياسة الترهيب والاعتقال، والحكم بالحديد والنار، جعلت الناس يكممون أفواههم من قبل زمن كورونا، من ساعة نزول المصيبة، وبداية السبع العجاف التي ينتظرون بعدها عاما فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه