اليونان والعرب: فصل آخر في الديمقراطية والاستبداد

 

24 من يوليو/تموز 1974، سقط الانقلاب العسكري في اليونان الذي سيطر على البلاد في 21 من أبريل/نيسان 1967 على أيدي مجموعة من الضباط يحملون رتبة العقيد يقودهم جورج بابادوبولوس الذي نصب نفسه رئيساً ورئيساً للحكومة ووزيراً للدفاع، وقد حكم مع زملائه البلاد بالقمع مثل أي انقلاب عسكري، فهو مسار واحد لا يتغير أبداً، والانقلابيون سعوا إلى خديعة الشعب ببعض الإجراءات فيما يتعلق بالحريات والإفراج عن المعتقلين وتخفيف الرقابة على الصحف وإلغاء مديونيات الفلاحين، لكنهم كشفوا سريعاً عن الوجه الحقيقي لديكتاتورية عسكرية لا تتسامح مع أي اختلاف أو آراء معارضة حيث كان القمع عنيفاً.

والخلاص من هذه الطغمة جاء على أيدي ضباط في الجيش أيضاً، أسقطوها ثم سلموا الحكم للمدنيين لتبدأ اليونان فصلاً جديداً في حياتها السياسية من الحكم الديمقراطي، وتداول السلطة بين الأحزاب.

7 سنوات من الحكم العسكري كانت درساً لنخب اليونان المتصارعة وللشعب الذي رحبت قطاعات منه بسيطرة الجيش على السلطة تحت وطاة فوضى السياسة وصراعات الأحزاب حيث ساهم ذلك في تهيئة التربة لاغتيال الديمقراطية مع اطمئنان المغامرين بأنهم سيلقون الدعم الجماهيري.

ففي لحظة صعبة قد تنخدع الشعوب، وتعتقد أن الحل للأزمات السياسية، وارتفاع وتيرة الاشتباكات غير العقلانية بين فرقاء السياسة، وانسداد قنوات الحوار، وسيطرة الأنا، وتحكم المصالح الذاتية الضيقة للأشخاص والجماعات السياسية في سلوكياتها ومواقفها، سيكون على أيدي البطل المنقذ، ولو كان عسكرياً، والذي بطبيعة الحال يتحول إلى ديكتاتور، وكلهم يبدون أولاً حملاناً وديعة ثم يخلعون الأقنعة لتظهر وجوههم البشعة.

حصل في تركيا:

حصل ذلك في تركيا ثلاث مرات بشكل صريح في 1960 و1971 و1980، وفي الرابعة في 1997 كان انقلاباً من دون تحرك الدبابات، حيث غادر نجم الدين أربكان رئيس الحكومة السلطة منعاً لاندلاع الفوضى وسفك الدماء، وفي محاولة الانقلاب الخامسة، في هذا الشهر قبل 3 سنوات كانت الأوضاع مختلفة حيث تصدى له الشعب، ولم يكن مستكيناً أو مرحباً كما في المرات السابقة، وهذا كان المتغير الأهم في تاريخ الانقلابات العسكرية التركية حيث ذاق المواطنون حلاوة الديمقراطية، وقطفوا ثمار الانجازات الاقتصادية والاجتماعية، وعاشوا تحسن الخدمات في ظل الحكم الديمقراطي، وباتوا ينعمون بالاستقرار الحقيقي، ويرون مؤشرات الفساد تتراجع، ويتعاملون مع قادة منتخبين.

45 عاماً اليوم من الاستقرار السياسي والديمقراطي في اليونان والتداول السلس للسلطة من حزب لآخر، من أقصى اليمين المحافظ إلى أقصى اليسار الراديكالي، والحزب الذي كان يحكم حتى الأحد 7 من يوليو/تموز الجاري وخسر الانتخابات العامة هو ائتلاف (سيريزا) اليساري، والحزب الفائز الذي استلم السلطة منه هو (الديمقراطية الجديدة) وينتمي إلى يمين الوسط.

أحد أشد الأزمات التي واجهتها اليونان طوال أربعة عقود ونصف بعد سقوط الانقلاب كانت أزمة الدين الحكومي عام 2010، وما خلفته من ارتفاع فاتورة الديون والوصول إلى حافة الإفلاس وخضوع الشعب لبرنامج تقشف صعب، وعملت حكومة (سيريزا) بزعامة الكسيس تسيبراس والحكومة السابقة عليه على مواصلة برنامج الإنقاذ بأقل الأضرار، وفيما لو كان الحكم العسكري مستمراً فالمؤكد أن هذه الأزمة لن تكون شيئاً بجانب التردي العام الذي كان سيضرب البلاد في السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والأخلاق والعلاقات مع أوروبا والعالم، فلا نظام عسكري أو شمولي أو استبدادي في العالم حقق تطوراً وازدهاراً.

 وفي الأزمة المالية اليونانية كان العلاج سيُفرض وفق رؤية الحاكم العسكري وزمرته وليس حسب مناقشات ساخنة وصاخبة وجدلية وحادة في البرلمان بين نواب الحكومة والمعارضة بحثاً عن أفضل السبل للخروج منها بأقل الإضرار للشعب الذي احترمت الحكومة إرادته واستفته حكومة تسيبراس في واحدة من حزم الإصلاح المالي والاقتصادي المعروض عليها من الاتحاد الاوروبي، ولما رفضها دعت الحكومة لانتخابات مبكرة فازت فيها وعادت بخطة جديدة ترضي مواطنيها رغم مصاعبها.

 كلمة الشعب هي الفيصل في تقرير مصيره في القرارات المفصلية الكبرى في الديمقراطيات بعكس النظم الفردية فلا وجود للشعب على خريطة صناعة القرار كما حدث في مصر عند اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 12 مليار دولار بشروط الصندوق التي التزمت بها من تحرير سعر صرف الجنيه ورفع الدعم عن خدمات أساسية مثل الطاقة والكهرباء وتقليص الدعم التمويني وعرض شركات للبيع وغيرها من الإجراءات التي ترهق المواطنين وتزيد مساحة الفقر.

في الديمقراطيات لا يتم تجاهل الشعب الذي قد يقبل أن يحتسي كأس المرار الاقتصادي والمعيشي طالما تَفّهم ضرورات الإصلاح، ووثق بأن حكومته استنفدت كل وسائل العلاج وليس أمامها غير هذا الطريق الصعب، وأن قوى المعارضة قامت بدورها في ممارسة حق الاختلاف وتقديم رؤيتها للحكومة، وهنا يكون الشعب مطمئناً إلى أنه لا مسار آخر يمكن الخوض فيه بخسائر أقل من هذا الطريق، وأنه لا يُساق إلى حتفه برأي الحاكم وحده باعتباره أعلم العلماء.

فرض السياسات

الحكم الديمقراطي تشاركي، وليس معنى حيازة حكومة منتخبة للثقة الشعبية أن تتصرف كما يحلو لها، هي تدرك أن هناك استحقاقات انتخابية قادمة لهذا لا تفرض كلمتها على الشعب بقسوة ولا تنفذها قسراً، ففي فرنسا سعى ماكرون لفرض ضرائب جديدة ورفع أسعار الوقود مما أضر بفئات شعبية احتشدت ضده في احتجاجات “السترات الصفراء” فأجبرته على التراجع عن قراراته قبل تفاقم الأوضاع، ولم يتشبث بالتفويض الشعبي الانتخابي.

وتريزا ماي المستقيلة من رئاسة الحكومة البريطانية 24 مايو الماضي اضطرت لتعديل بعض بنود برنامج حزبها الانتخابي (المحافظون) بعد أن تلقت صفعة من الجمهور في الانتخابات المبكرة يونيو 2017 حينما عاقبها بعدم منحها أغلبية لتشكيل حكومة فاتفقت مع حزب صغيرة على دعمها وفي النهاية فشلت سياستها غير الشعبية فخرجت من الحياة السياسية.

في العالم العربي، وفي عالم الجنوب غير الديمقراطي، تُفرض السياسات والقرارات فرضاً وقهراً على الشعوب مهما كانت قاسية وغير إنسانية وكارثية، وحتى لما تظهر آثارها التدميرية على الشعوب فإنها تستمر في التنفيذ، وقتل روح المواطنين، وإفقارهم وإذلالهم طالما أن السلطويات الأمنية تلجأ للقمع والقوة المفرطة، ومرجع التخلف والانهيار الاقتصادي ومصادرة الحريات والإرادة الشعبية هو أحادية الحكم والصوت الواحد وحكمة القائد الضرورة والزعيم الملهم وإلى آخر هذه المنظومة من الدجل التي تزدهر في البيئة العربية الصانعة لكل مفردات النفاق والقهر والطغيان.

في الديمقراطيات لا تتبدد الفرص، وفي الديكتاتوريات تتبدد كل الفرص، اليونان ورغم ضخمامة أزمة الديون إلا أنها واصلت الخروج منها ومن أزماتها الأخرى بهدوء وأمان، وفي الديكتاتوريات فإن الأزمات لا تجد طريقاً للحل، بل تتراكم لتزيد كثافة ووطأة الأعباء والإحباط والاكتئاب لتصير الحياة أشبه بالجحيم.

الديمقراطية تبني منظومة أخلاقية مميزة وإنسانية ومن مفرداتها التسامح والانفتاح وتقبل قرار الشعب بصدر رحب، وفي اليونان أقر رئيس الوزراء المنصرف تسيبراس (45 عاماً) بالهزيمة لصالح منافسه، كيرياكوس ميتسوتاكيس (52 عاماً) وقدم التهنئة له، وقال: اليوم نقبل حكم الشعب برأس مرفوع، ورئيس الوزراء المنتخب قال لأنصاره: إن البلاد ترفع رأسها بفخر مرة أخرى، سأكون رئيسا للجميع.

مثل هذه الثقافة شديدة التحضر، متي تنعم بها بلادنا وشعوبنا المحرومة من حقها في أن تقرر مصائرها بنفسها حتى في لقمة عيشها؟!.

من أسف أن الشعوب العربية، مهما قامت بثورات وانتفاضات وحراكات واحتجاجات، ومهما خلعت ديكتاتوريات، وأطاحت بأنظمة استبداد إلا أن حكم الفرد الذي يتلون كالحرباء لا يريد أن ينهزم أو يستسلم أو ينسحب في هدوء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه