الوفيات بالآلاف في الاكوادور.. حقيقة لا تقبل التكذيب

لم أكن لأكتب عن أزمة كورونا في الإكوادور وانتشار مقاطع فيديو الجثث المتراكمة في المشارح والمتناثرة في الشوارع، ظنّا مني أن الاكوادور، البلد القصيّ، لن يحظى في أي حال باهتمام شبكات التواصل الاجتماعي وسط زخم الأخبار العالمية. غير أنه، ومع تفشي الوباء في هذا البلد أصبح اسمه حاضرا في نشرات الأخبار العربية. وفي الوقت الذي كانت تتناول فيه الأخبار صرخات المواطن الاكوادوري ويأسه من تحصيل قبر أو حتى تابوت يستر ميتته بسبب عجز المستشفيات عن تقديم اللازم له، كانت التعليقات تتراوح بين الحوقلة والتكذيب. تكذيب استفزني وجعلني أكتب من موقع شاهد العيان، المقيم في البلد.

       قبل تأكيد ما راج من أخبار وصور أو تكذيبها، جدير بنا توضيح تفاصيل مهمة في الموضوع؛ فالصور الفظيعة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسابيع وتتواصل الى اليوم تحت عنوان “غواياكيل، ووهان أمريكا الجنوبية”، أو “الاكوادور بلد الأشباح” هي ترجمة وفيّة لأخبار نشرتها السي أن أن والبي بي سي والدي دابليو… نقلا عن نداءات استغاثة لمواطنين إكوادوريين وقفوا عاجزين عن دفن الجثامين المُسجّاة في بيوتهم أياما وليالي بسبب الطلبات المتراكمة على السلطات المعنية برفع الجثث.

صفاقة الحكومة:

هؤلاء وغيرهم من الذين وثّقوا صور جثث مشرّدين متناثرة في شوارع مدينة غواياكيل كانوا قد أغرقوا شبكات التواصل الاجتماعي داخل الاكوادور بهذه المناشدات، لكن الحكومة ردّت بكل صفاقة بأنها “أخبار زائفة”، وقالت إن الجثث التي ظهرت في الصور هي لمواطنين “يمثّلون” وأن جثث المشردين المتروكة في الشوارع والتي أضرم فيها مجهولون النار لقتل رائحة تعفنها، هي في الحقيقة إحراق لبقايا أثاث أراد القائمون به إثارة البلبلة والتشويش على عمل الحكومة.

وسائل الإعلام الغربية وخصوصا السي أن أن لم تقف عند حد نشر هذه المقاطع، بل سجّلت انعراجا واضحا في سياسة التعامل مع الحكومة الاكوادورية في أزمة الجثث باستدعائها لمحاورة الرئيس رأسًا (وقد رفض ذلك تهرّبا)، ثم مساءلة معارضين ذوي وزن مدوٍّ لإماطة اللثام عن كل ما تستّرت الحكومة عليه.

      فمدينة غواياكيل الاكوادورية، بؤرة العدوى والتي نُعتت بووهان أمريكا الجنوبية، هي العاصمة المالية للأكوادور، تقع على ساحل المحيط الهادي، وتعتبر معقل راس المال الاكوادوري الذي يحتكر حكمها محلّيا منذ عقود، وأنجب رؤساء كثيرين. هذه المدينة يسكنها ما يقارب مليونين ونصف المليون ساكن، أقلية ثريّة جدا وأغلبية منعدمة الإمكانيات تعيش في أحزمة الفقر العديدة المحيطة بالمدينة وجزرها المُترفة. وتقع في محافظة تُدعى غواياس. سُجّلت أول إصابة بفيروس كورونا في الإكوادور في هذه المحافظة يوم 29 فبراير/ شباط وتجاوزت اليوم وحدها الـ7.000 إصابة، وقاربت الوفيات فيها 300 حسب اللجنة الخاصة بأزمة كوفيد19. هي الأرقام الرسمية المُعلنة، لكن الواقع المختلف يتوضّح تباعاً.

التنافس الانتخابي:

     معضلة هذه المحافظة يرجع الى معطيات عديدة، أولها التنافس على إدارة أزمة كوفيد-19 والذي مثّل حربا شعواء بين أصحاب الحكم المركزي وأباطرة الحكم المحلّي، خصوصا أن البلد على مشارف محطة انتخابية رئاسية، والمرشحون (من الطرفين) يتسابقون على الظهور.

هذا التنافس الشرس حرّف هوية العدو الحقيقي للمرحلة في البلد وأوصل الحال الى ما نحن عليه، وجعل المعارضة تفنّد أرقام الحكومة عبر نشر أرقام السجل المدني الرسمية، والتي تعلن أن الوفيات المسجلة في المحافظة في شهر مارس/آذار والنصف الأول من شهر أبريل/نيسان الجاري بلغت 11.000، علما بأن عدد الوفيات الطبيعية في المحافظة يبلغ 2.000 شهريا (مايقابل 3.000 لمدة شهر ونصف)، وبالتالي فإن الوفيات الإضافية في هذه المدة بلغت 8.000 في “ووهان الاكوادور”. وهو رقم غير قابل للتكذيب لأن وزارة الدفاع التي تكفّلت برفع الجثث ( إثر فشل لجنة أخرى من الرئاسة) أكدت المعلومة.

الأدهى من هذا أن هذه اللجنة الجديدة صرّحت بأنها عندما تسلمت المهمة، كان عدد الجثث المتراكمة يبلغ الآلاف، وأن حالة الازدحام، مع ارتفاع درجة الحرارة (منطقة حارة طوال السنة) جعلت الحل العاجل يتمثل في رفع الجثث بأي طريقة حتى لو لم تتوصّل المستشفيات لتحديد هويات الجثث، وبالفعل تمّ دفن أكثر من 4.000 جثة “مجهولة الهوية”. والسبب يرجع في ذلك حسب وزارة الصحة، التي اشتكاها كثير من أهالي هؤلاء الضحايا الى القضاء، الى قلة الإطار الطبي والإداري لمجابهة طلبات ذلك الكم الهائل من المصابين والمتوفين. ومازال الى الآن عديد الأهالي ماضون في البحث عن جثث المتوفين من أُسَرِهم، منهم من لفظ أنفاسه منذ شهر داخل المستشفى ولا يُعرف الى الآن هل مازال محفوظا في ثلاجة الموتى أم تم شحنه في عربات الجثث المجهولة الهوية الى المقبرة. حالة من الفوضى تعيشها المحافظة منذ تفشي الوباء فيها، ولا تجد لها السلطات مخرجا آمنا. لكنها حالة استثنائية في الاكوادور، باعتبار خصوصية هذه المنطقة التي ذكرناها، ولاعتبارات أخرى ساهمت في انفلات العدوى في شهر مارس/آذار مثل تنظيم مقابلة كرة قدم في المدينة بحضور 30 ألف مشجع واحتضان تظاهرات جماعية في أوج انتشار الوباء ومباشرة قبل فرض حظر التجوال.

المرتبة  الثانية

      حين انتشرت صور الجثث، لم يصدّق أهل البلد، من خارج المحافظة فظاعة الواقع وفرّوا للاحتماء برواية قنوات الإعلام الحكومي، لكن بعد نشر الأرقام الرسمية للسجل المدني، لم تعد أرقام الحكومة تحظى بتصديق أحد. فالاكوادور اليوم تحتل المرتبة  الثانية بعد الرازيل في بلدان أمريكا الجنوبية في تفشي الوباء، فقط حسب الأرقام الرسمية، فما بالنا بالأرقام الحقيقية. ناهيك عن أن منظمة الصحة العالمية اعتبرتها بلدا ذا أولوية في قائمة الإعانات الطبية من طرف المنظمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه