الوحدة أو الموت

“لا يُلدغ مؤمن من جحر مرتين”، ويبدو أن إيماننا ما زال منقوصا فلدغات الجحر الملعون تملأ تاريخنا ومواقفنا وتصرفاتنا وما زالت.

ربما أخطأ عبد المنعم أبو الفتوح أو لم يخطئ… ربما أخطأ البرادعي أو لم يخطئ… ربما أخطأ صباحي أو لم يخطئ… ربما أخطأ خالد علي أو لم يخطئ… ربما أخطأ محمد مرسي أو لم يخطئ… ربما وقعوا ضحايا لخديعة أو لم يقعوا… ربما أخطأ الكثيرون أو لم يخطئوا.  وإذا سلمنا جدلا بأن الجميع أخطأوا في تقدير الموقف مع نظام السيسي أو وقعوا في خندق خديعة دولة العسكر العميقة بعد ثورة 2011، فإن الثابت واليقين أن هناك حقيقة واحدة لم تتغير ولم تخضع لأي احتمال وهي أن قاتل كل الضحايا من كل فئات الشعب المصري واتجاهاتهم منذ ثورة 2011 هو طرف واحد قتل الطرف الثاني من الثوار والغاضبين من أبناء الشعب المصري ولا طرف ثالث لهما.

ومن السذاجة أن يغض الجميع البصر عن الحقيقة الوحيدة المؤكدة وعن اليقين الثابت ويوجهوا سهام غضبهم وانتقاداتهم وخلافاتهم داخل معسكر الضحايا تحت تأثير احتمال الوقوع في الأخطاء أو سوء تقدير المواقف.

“لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين”، ويبدو أن إيماننا ما زال منقوصا فلدغات الجحر الملعون تملأ تاريخنا ومواقفنا وتصرفاتنا وما زالت.

بلا خطيئة

نكرر مشاهد الوقوع في نفس الأخطاء ونلتقم نفس الوقيعة ونفس المكائد التي وقعنا فيها من قبل لنذبح أنفسنا بأيدينا ويظل الجحر الملعون مهيمنا ومسيطرا يمارس القمع والقتل والإرهاب دون أي معارضة أو مواجهة.

عندما خاطب السيد المسيح عشيرته مشيرا للمرأة الخاطئة: “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”… كان عليه السلام يقصد خطيئة واحدة ولهذا قال لها: “اذهبي بسلام ولا تخطئي”، ولكن أن تتكرر الخطيئة فأحجار العالم كلها لن تكفي لمحوها.

عقب حركة الضباط المصريين عام 1952 في مواجهة الحكم الملكي الفاسد التف حولها الشعب واجداً فيها طوق النجاة من الحكم الفاسد، ولم تكن حركة الضباط هي حركة المعارضة الوحيدة في الشارع المصري ضد الحكم الفاسد آنذاك وإنما سبقتها وعاصرتها عدة حركات مدنية كان لها التأثير الأكبر في الحشد للثورة على النظام الملكي وتهيئة المناخ الشعبي له، إلا أن مجموعة الضباط كانت في مقدمة التحرك لاعتبارات القوة العسكرية، وبدأت حركة الضباط في لحظاتها الأولي مستندة على كل قوى المعارضة المدنية آنذاك، وكان من الطبيعي أن يكون المسار الطبيعي هو الحكم المدني للشعب المدعوم بحماية عسكرية من جيش وطني، إلا أن الأمور سارت في طريق معاكس وتحول العسكر من قوى داعمة إلى قيادة وحكم عسكري. والغريب أن كافة القوى المدنية اعترفت ضمنيا بهذا الوضع ولجأ كل منها منفردا لجماعة العسكر ليسمحوا لها بالمشاركة في معادلة الحكم، بدلا من اللجوء والاحتماء بقوى الشعب وإرشادها باعتبارهم طليعة ونخبة إلى طريق المشاركة الشعبية في الحكم والتأسيس لحكم مدني ورفض انحراف جماعة الضباط تجاه الحكم العسكري.

ولهذا عندما قامت حركة الضباط، الملقبة لنفسها بالحركة البيضاء لأنها لم تقتل أو تعدم أحدا من معسكر الفساد، بإعدام محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري العاملين في أحد مصانع كفر الدوار بعد مشاركتهما في أغسطس/آب 1952 في حركة احتجاجية على نقل بعض العمال بعد شهر واحد من قيام حركة الضباط لم يكن الأمر مثال تعجب لأي محلل سياسي، فالقوى الفاشية الجديدة لا بد أن تؤسس لنفسها وترسخ قواعد حكمها بالقمع، وبدلاً من أن تقف طليعة القوى المدنية السياسية في مواجهة الحكم استمرت في الارتماء في حضن العسكر طالبين الود والقرب فالتزم جزء منهم الصمت، وبارك جزء آخر إعدام العمال باعتبارهم خطرا شديدا على الأمة، وباعتبارهم من مثيري الشغب والفوضى، وكتب الشيخ سيد قطب مقالا بهذا المعنى، واكتفت قوى اليسار بالاحتجاج المائع من على بُعد بعين على القوى الشعبية وعين على إرضاء العسكر وخطب ودهم، وبالطبع تحالفت المواقف المائعة مع المواقف الانتهازية مع الفاشية العسكرية، وتم إعدام خميس والبقري بعد محاكمة هزلية في نفس عام الثورة، وكما فعل محمد علي من قبل، بدأت الوقيعة بين طليعة القوى المدنية والشعب، وبعدها انقلب العسكر المتربعون على عرش الحكم على القوى السياسية المدنية التي كانت تحاول التقرب منها وأذاقهم كل ألوان التعذيب والبطش والاعتقال، وكانت هذه هي المرة الثانية التي تقع فيها طليعة الشعب في الخطيئة بعد المرة الأولى إبان حكم محمد علي.

مرة ثانية

وتتكرر الخطيئة للمرة الثالثة عام 2011، فبعد أن نزل الشعب إلى الشارع قائلا كلمته: “حرية عدالة اجتماعية”، وأربك النظام الحاكم المتربع عليه عسكري محاط بالفاسدين، وبدلاً من أن تبدأ طليعة الشعب في تكوين حكم شعبي ثوري، يقود الوطن نحو مرحلة جديدة من الحرية والكرامة والعدل، كانت الخطيئة الثالثة وتسليم مقاليد الأمور للمجلس العسكري، وبدأت نفس الدورة التي لم تتعلم منها الطليعة من وقائع بين قوى الثورة وتأليب الشباب على القيادات السياسية من الفئات العمرية الأكبر ونشر حالة من الحماس الأجوف والدفع بها في فاعليات غير منظمة لاستيعاب ووأد أي فاعليات ثورية حقيقية في الشارع وتأليب الطليعة على التحركات الثورية في الشارع مثلما ما حدث في ماسبيرو ومحمد محمود. وفي مشهد متكرر بدأت طليعة القوى السياسية في محاولة التقرب من المجلس العسكري بشكل منفرد للدخول في معادلة الحكم، وكعادة العسكر التاريخية تقربوا من كل جماعة على حدة وبدأت مرحلة التأليب والوقيعة حتى تهدمت قاعدة الثورة الشعبية، وأصبح العسكر هم القوة الأساسية في المجتمع مرة أخرى، وبدأت مرحلة التأديب والتهذيب والتأهيل للشعب بنشر الفوضى والقلق في الشوارع وفي المشاهد الأخرى قوى سياسية معدومة الحيلة متفرقة متآمرة على بعضها في مقابل قوى عسكرية باطشة متماسكة تمتلك زمام الأمور، وتقف موقف السيد من القوى السياسية المدنية التي تدنت وانحنت في مذلة أمام العسكر وبينهما شعب مصدوم مرتبك يحاول الخلاص من هذه المعادلة الرديئة والنجاة بثورته، ولكن المعادلة الكريهة كانت أقوى وانتهت بالشباب الثوري في السجون مبكرا، وكعادة العسكر ومثلما حدث في الخطيئتين السابقتين ما أن استلقى العسكر واسترخوا حتى بدأوا في الوقيعة بين كل طلائع المعارضة عبر مشاهد مخططة ومرسومة، ولهذا لم يكن عجيباً في هذا المناخ المدبر أن يفشل أول حكم منتخب لأنه لم يكن مستنداً على قوة شعبية حقيقية بقدر ما كان مشهداً ضمن مشاهد خطة العسكر الخبيثة التي تلاعبوا فيها بكل القوى المدنية وانتهى الأمر بالجميع ما بين المطاردة والتشريد والسجون، وعاد العسكر يتربعون على عرش الحكم مستلقين في ثقل مميت، وازداد الانهيار على كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ودفع الشعب الثمن.

نفس الخطيئة

وما زلنا نمارس نفس الخطيئة ونتجه نحو الخطيئة الرابعة، فبينما يمارس العسكر الحكم الفاشي ومخطط السيطرة، بدلاً أن تبحث القوى المدنية المأزومة عن حل لهذه الأزمة عبر الوحدة بينها وجمع الشعب مرة أخرى في حركة مواجهة موحدة ضد الحكم الفاشي، تفرغت بقايا الحركة المدنية لنصب محاكمات لبعضها عن موقفهم فترة الثورة وتناسى كل اتجاه منه أخطأه وتذكر أخطاء الاتجاه الآخر، وتحولت القوى السياسية من مواجهة الفاشية العسكرية الجاثمة على قلب هذا الشعب المنهوب إلى الحرب بينها وبين بعض!!

وليس أمامنا إلا طريق من طريقين، إما أن نكرر أخطاءنا مرة أخرى ونتحول إلى أسطورة «سيزيفية» تحول أخطاءها المتكررة إلى مصير أبدي مأسوي، وإما الاعتراف بأن الجميع أخطأ والتغاضي عن كبوات الماضي والتوحد والتحصن بخبرات الماضي المؤلمة وإعادة الروح الثورية مرة أخرى للشعب المصري من أجل حكم مدني عادل… باختصار إما الارتكان إلى الخطيئة المميتة أو الصحوة الثورية المنقذة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه