النُّخَب الشّبابيّة الفكريّة؛ الطّبقيّة المعرفيّة وخفوتُ الدّور

 

لا أخفيكم أنَّ عندي مشكلةً كبيرةً مع الاستعمال الفوضويّ لمصطلح النّخبة، وما غدا يفعلُ بالكثيرين من انتفاخاتٍ في المخبَر والمظهر

 وهو مصطلح يحتاجُ إلى التّحريرِ والتفصّيل في غير هذا الموضع، ولذا فسوف أَجرِي في التّعامل معه هنا مجرى الواقع بعجره وبجره

 لا سيما أننا سنتوقّفُ عند حال شريحةٍ غدا هذا المصطلح هو أكثر ما يستخدمُ في تعريفها وتوصيفها.

لا شكَّ أنَّ الواقع اليوم يشهدُ تيهًا شبابيًّا في الفكرِ والتوجّهات، وأسئلةً في صميمِ الوجود بعدَ ثماني سنواتٍ من انطلاق قطار الربيع العربيّ الذي آلَ بفضلِ الثورة المضادّة إلى ما نعاينه من حالٍ لا تجعلُ الحليمَ حيرانًا فحسب؛ بل تجعله يفقدُ الكثيرَ من توازنه وإجاباته عن الأسئلة الجديدة

 وقد تزامن ذلك مع ولوج شريحة من الشّباب في غمار الفكر والثقافة بحثًا عن نهاية الطّريقِ الشّائكة التي وجدوا فيها أنفسهم بلا دليلٍ ولا مرشد، وتَلَمُّسًا للمخارج من العتمة التي اصطكَّت بالعيون والبصائر.

هذه الشّريحة بدأت تتشكَّلُ معرفيًّا وفكريًّا وثقافيًا على عجلٍ تفرضه الحاجةُ إلى الإسراع في مواكبة الوقائع المتراكضة من جهةٍ، وشعور عامّة الشّباب بفقدان الرّمز الذي يتوقونَ إلى الالتفاف حولَه من جهةٍ أخرى.

 وهذه الشّريحة لم تطلق على نفسها وصف النّخبة، غير أنَّها بدأت تتمايز عن عموم الشّباب

وساهم في تسميتها وتوصيفها وقولبتها الكثيرُ من وسائل الإعلام المرئيّة النّاشئة، والمؤسسات الثقافيّة والجمعيّات الشبابيّة ومؤسسّات المجتمع المدني التي تتكاثر مثل الأرانب في ظلال الثّورات والأزمات بحثًا عن تسجيل الإنجاز وإثبات الذّات

 فغدت تتنافسُ على استضافة الشّباب النّابغ؛ مع مبالغةٍ غير صحيّةٍ في التّصدير لكثيرينَ ممّن ينقصهم الكثير؛ ممّا كرّس تمايزهم عن القاعدة الشّبابيّة العامّة.

 

تزبّبوا قبل أن يتحَصرَموا

 

لم تعش شريحة واسعةٌ من هذه النّخبة الفكريّة الشّبابيّة مراحل النّضج على نارٍ هادئة، بل طحنَتهُم الثّورات طحنًا ومنحتهم فرصة النّضوج الفكريّ والثّقافيّ المبكّر، واكتساب الخبرات العريضة في وقتٍ قصيرٍ

 غير أنَّ الظّروف المحيطة جعلت عددًا لا بأس به يتصدّرُ المشهد المعقّد ويتصّدّى للقضايا الشّائكةِ؛ قبل أن يمتلك الأدوات اللّازمة والخبرات الكافية

 وعددًا آخر رأى في تصدُّرَهم مزيّةً تشريفيّة تستحقّ التسلّق على جدار النّخبويّة فسَعَوا لها سعيهَا.

 وللإنصاف ينبغي القولُ بأنَّ هؤلاء الشّباب لا يتحمَّلون وحدَهم مسؤوليّة ذلك، بل تتحمّله بالدّرجة الأولى المؤسسّات الإعلاميّة التي تريد أن تملأ برامجها بكلّ جديد؛ فتتلقّف هؤلاء الشّباب

 والجمعيّات النّاشئة التي تريدُ أن تقدّم تقرير إنجازٍ للدّاعم فتقيم المناسبات واللّقاءات وتستضيفُ الشّباب الذين ولجوا عالمَ التّرميز على عجلٍ لا وجل فيه

وكذلك المنتديات الشّبابيّة والمؤسسات البحثيّة ومراكز الدّراسات التي تريدُ البرهنة على احتوائها لشباب الثّورات من خلال تصديرهم، وتتنافسُ فيما بينها على تلقّفِ المتميّزين منهم لغايات عديدةٍ ليس في مقدّمتها خدمة الشّباب أو بناؤهم.  

وبالإضافة إلى حالة التَّمايز عن الغير؛ فإنّه سرعان ما انتشرت الأمراض التي ينتقدها هؤلاء الشّباب في الشّرائح المجتمعيّة والنّخبويّة والفكريّة الأخرى فيما بينهم هم؛ من الشّلليّة والمناطقيّة والإقليميّة والحزبيّة والجهويّة والتكتّلات المتصارعة، والغوص في مستنقعات لا تليق بالشّباب ولا بالفكر ولا بالنّخب

 وهذا ضريبة التزبُّب قبل التّحصرُم في مجتمع زاخرٍ بالأوبئة؛ بارعٍ في نقل عدواها؛ يعاني انتكاسات المنهزمين.

 

الطّبقيّة المعرفيّة والنّرجسيّة الفكريّة

 

هذا التّمايز عن القاعدة الشّبابيّة العامّة، تحوّلَ شيئًا فشيئًا إلى تلَبُّسٍ بالنّرجسيّة المعرفيّة والطّبقيّة الفكريّة التي قادت إلى الانزواء في مجموعاتٍ خاصّةٍ

 ولقاءاتٍ قاصرة على الشّبيه والنّظير والمثيل، وتواصلٍ متركّزٍ في البيئة الثقافيّة والفكريّة، ومع الشّرائح النخبويّة، ومناقشة القضايا والوقائع من وراء سُتُر الشّاشات ومن خلف جُدُر القاعات الفندقيّة الخاصّة، أو في سهرات قهوة تغلبُ عليها الطّقوسيّة الثّقافيّة.

 وإن كان شيءٌ من الخصوصيّة في اللّقاءات والبرامج ضروريًّا في البناء المعرفي، غير أنَّ الاقتصار عليه والانكفاء على الذّات والّتقوقع بما يوحي بالاستعلاء على القاعدة الشبابيّة التي انخرطت في سوق العمل، أو غابت في ردهات اللّجوء والتّعب، وتشّردت على رصيف الأسئلة التي لا جواب لها؛ يعكسُ طبقيّةً لا تختلفُ في تأثيراتها العميقة عن الطّبقيّة السّياسيّة التي ترتدي ثوب النّخبويّة أيضًا، وثار عليها هؤلاء الشّباب أنفسهم أو اتّخذوا منها موقفًا غير إيجابيّ على أقلّ تقديرٍ لطبقيّتها ونرجسيّتها وانفصالها عن واقعهم وهمومهم الحياتيّة اليوميّة.

 

كيفَ التَّغلّبُ على خفوت الدَّور؟

 

“إنَّ مسؤوليةَ المثقَّف في زمانِه هيَ القيامُ بالنبوَّة في مجتمعه حينَ لا يكونُ نبيّ؛ ونقلُ الرّسالة إلى الجماهير” هكذا عبّر علي شريعتي عن مسؤوليّة المثقّفين والنّخب الفكريّة في المجتمع

 فالمسؤوليّة هي التّغيير الرّسالي على مستوى القاعدة الجماهيريّة، ومكابدة المشاقّ في سبيل تحقيق ذلك، وإلقاء دثار الرّاحة والتّحرّك في جنبات المجتمع وتحمّل الأذى والوصول لجميع الجماهير بتواضعٍ جمّ وسموٍّ رفيع.

ولئن كانت هذه مسؤوليّة النّخبة الفكريّة عمومًا؛ فإنَّ الدّورَ يتضاعف والمسؤوليّة تشتدّ حينَ تكون هذه النّخبة شبابيّةً تدفق الحياة في عروقها، وتنبض الهمّة في كيانها، وتمتلك جرأة الطّرح وإقدام القلب وثبات الجَنان والقربَ من قاعدة الشّباب والقَبول منهم.

إنَّ بناءَ حاجزٍ مع الجماهير الشّابّة المتعطّشة للتّغيير، والمحتاجة للوعي على أساس الطّبقيّة المعرفيّة؛ يمنع هذه النّخبة من القيام بدورها وتحمّل مسؤوليّتها والاضطلاع بمهمّتها الأسمى في التأثير والتّغيير الحقيقيّ لا التّغيير الوهمي الذي تعبّر عنه عدّادات الإعجابات وإعادة التّغريد.

إنَّ الفكّرَ هو وقود التّغيير، والشّباب هم محرّكه الحقيقيّ، فإن اجتمع الفكر والشّباب في شريحةٍ فإنّها تغدو كالغيمةِ المُثقلةِ بالغيث

 فمن واجبها أن تطلق العنان لحيويّة الشّباب وتدفّق الفكر؛ فتجوب الأرض وتراها من علٍ رؤيةً ثاقبةً فاحصةً كاشفة؛ وتحدّد مواضع الحاجة الأكثر لغيثها ومواضع الحاجة الأشدّ لظلّها

 فلا تمنع الظلّ عن المحترقين في هجيرِ انكشافِ الظّهر والخذلان، ولا تحبسُ عن العطاش سقيا عقلٍ وروح فترويهم بلا منٍّ ولا أذى

 وترسلُ إلى الأرض الجدباء غيثَ وعيٍ يجعلها تهتزّ وتربو وهي تُخرجُ من أحشائها المُظلمةِ إلى النّورِ أجيالًا كانت مهملةً ومتروكةً للخراب.

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه