“النكبة” ذكريات طفل فلسطيني بلسان إسباني

   في شرق المتوسط، لا صوت يعلو فوق صوت الرّصاص الإسرائيلي المُوجّه نحو العُزّل المُتدفّقين من قطاع غزة نحو المنطقة المُحاذية لحدود غزة مع إسرائيل في إطار احتجاجات مفتوحة للمُطالبة بتفعيل “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي طُردوا منها في 1976 وتزامنا مع يوم الأرض الفلسطيني. في غرب المُتوسّط، احتجاج من نوع آخر، كاتب فلسطيني-كتلاني يُحيي هذه المناسبة في مدينته برشلونة بتقديم كتاب جديد له عَنونه “نكبة”، 48 مقطع روائي على لسان طفل تعُجّ ذاكرته بآلام نكبة 48 ونكسة 67. أحداث عاشتها عائلة الكاتب نفسه، صلاح جمال، مُجتمع فلسطيني مُصغّر بذاكرة حيّة ومُصِرّة على “حق العودة”.

   من غير المُجدي في شيء أن أنساب في تفاصيل الحُظوة التي يكتسبها الكاتب والقضية الفلسطينية مَعا لدى مُعظم النّخبة الثقافية والسّياسية في كتالونيا. لكن سأكتفي بنبذة عن تاريخ الرجل حتى نتبيّن مُبرّرات هذه الحُظوة: شاب نابلسي ارتوى بجُرعات مُشبعاتٍ من الوطنية من صدر أم فلسطينية أصيلة وبعض أفكار عنيدة من أب بسيط مُكابر لم يجد للتسلّح سبيلا سوى الاجتهاد في التكاثر وجلب نَسلٍ ينتشر في الأرض ويُزعج العالم بذاكرته الحيّة التي تأبى النسيان، ويُوثّقها بكل اللّغات. وصل برشلونة لدراسة الطب سنة 1968 وحيدا، يافِعا، مُغرقا بالنكبات، وفي نفس الوقت مسكونا بِوَعد النجاح عِرفانَا للعائلة المُرابطة على أرض المعركة، وللنفس السّاخطة على الفشل والفقر والهوان العربي. أتى على شهادة الطب ثم الاختصاص، ثم التفت إلى التاريخ وحصد “أكاديميّا” الاختصاص الثاني، وواصل بتفرّغ أكثر لهوايات شخصية مثل الكتابة والطّبخ والعمل السياسي.

   ما كتبه صلاح جمال هذه المرة متميّز عمّا كتبه سابقا، فـفي “نكبة”، تفرّغ الرجل للسّرد. وإن كان الكتاب يعرض ويُوثّق بوفاء كبير لمحطّات تاريخية أساسية في تاريخ القضية الفلسطينية، إلا أن هذه المقاطع تنساب بذكاء كبير (قصد التّرسيخ) وسط خط الأحداث المُشوّق لحياة العائلة الكبيرة. فهو يشدّ القارئ مع كل شخصية (على اختلافها) حتى يجد نفسه مَعنيّا باهتمامات كُلّ واحد منها. لدرجة أنك، داخل السرد، تجد نفسك مُصغِيا مع الأطفال في بَهو البيت لحكايات الجدة اليَقِظة عن تهجير العائلة من بيسان نحو نابلس وتفرّقها على إثر اجتياح اليهود لـبلدتهم في1948، وتستجدي بحُكم الفضول الطفولي تفاصيل أكثر من الأم عن فترة ما قبل وصول وفود اليهود، عن الحقبة العثمانية، والبريطانية، وسيكس بيكو ووعد بلفور.

صورة لم تهتز

 أما الأب فقد حرص على شَحن عقول أبنائه بِقناعات راسخة تحسم مسألة التّعويل على مساندة الحكومات العربية للقضية، فقد كانت بالنسبة له مصدر لا خذلان فقط، بل تواطئ مع العدو لإخماد حماس الفلسطينيين. ماعدا “ناصر”، الأمل الذي لاح للأطفال حينها “المُنقذ” من كل المظالم والخيبات.

أمل سرعان ما انقلب وَهمًا، لكنه لم يهزّ من صورة الأب في نظر أبنائه. أب مُنهك، لم يبق له من أمل في المقاومة سوى الاستكانة إلى مُقترح زوجته اللّبيبة منذ سنوات.  زوجته التي عاندته ونفّذت قرارها منذ كانوا في بيسان. التقط سمعها ذات مساء من مُترفات الحيّ أنّ إرسال الأبناء لتحصيل شهادات جامعية عُليا في الخارج هو رِهان علّية القوم. تخمّرت الفكرة في رأس الأم، وطوّعتها لفهمها الخاصّ، معتبرة أنّ هذا الرّهان هو عين المُقاومة، فالعرب جهلة وخونة لذلك تفوّق عليهم العدوّ. ومادامت جينات العائلة لا تُورّث الخيانة فالتّعويل سيكون على سلاح التعليم، وبناء عليه ستنذر مُدخراتها البسيطة لتعليم البِكر، ليكون قُدوة لإخوته.

الرحيل

يُسافر الشاب وتعصف الحياة بأهله شمالا ويمينا، وتُفرّق الأبناء العشرة (الذين لم يجتمعوا أبدا) في مشارق الأرض ومغاربها.  ولكم أن تتصوروا تفاصيل حياة عائلة مترامية الأطراف تجمعها صفحات كتاب في مئتي صفحة، عائلة وجيران وأصدقاء وتقلّبات وطن تحت الاحتلال. زَخم أحداث ينساب بحِبكة روائية رفيعة ولُغة إسبانية دقيقة جدا، تُحلّيها بعض العبارات العربية والتفاصيل الاجتماعية والثقافية والدينية المُفسّرة بوضوح جَلِيّ (وإثراء ثقافة القارئ الإسباني مقصود). هذه التفاصيل ليست غريبة على الكاتب، فهَوسه بالتاريخ والأدب العربي طاغٍ على منشوراته.

    الكتاب منذ العنوان (نكبة)، يُذكّر بطعم المرارة والإحساس بالعجز الذي يسكن وعي كلّ عربي. وكلّ المقاطع كانت تُصدّر هذه الأحاسيس وعبر كل الشخصيات، غير أنّ المَهارة الأدبية التي طغت على “نكبة” تتعلّق بجانب السّخرية في موضوع مثل هذا. فالكاتب تفنّن في المرور بالقارئ من حالة التأثر الشّديد والتعاطف مع أزمات بعض الشخصيات (موت، تعذيب، فراق…) إلى الضّحك قهقهةً في الفقرة نفسها من دون إحداث أي شرخ على مستوى الأسلوب أو المعنى. عندما قرأت الكتاب بقلب عربية يُميّزها عن باقي القُرّاء الإسبان، وجدت نفسي، من دون أن أشعر، فردا من أفراد العائلة، لدرجة أني بكيت بحُرقة لوفاة أختهم نجاة وغضبت جدا من الكاتب الذي كان من الممكن أن يخدع قُرّاءه باختراع شعاع نور واحد في حياتها، وإن كذبا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه