النقاب والاندماج.. وأحضان الحبايب

النقاب الذي تتوالى عليه قرارات الحظر في أوروبا بلداً بعد آخر، فإنه قضية دينية جدلية في البلدان الإسلامية نفسها فلا يوجد اتفاق عام حوله،

إذا اخترت وصفاً في كلمتَين للصورة التي التقطتها وكالةُ رويترز للأنباء لشرطيّة تحتضن سيدة مُنتقبة والدموع في عينَي هذه السيدة خلال مشاركتها في احتجاج ضدّ حظر غطاء الوجه في الدنمارك فسيكون الوصف هو ” أحضان الحبايب”، فالناس جميعاً أحبّة، وليسوا خصوماً. قاتل الله من يحوّل الناس إلى أعداء.

الصورة تعكس تسامحاً وانفتاحاً وأُخوةً مهما كانت الفوارق والاختلافات بين الناس، لكن تمّ استثمارها بعنصرية من الكارهين للتمازج البشري لتثير جدلاً واسعاً في الدنمارك، وجرى توظيفها سياسياً بانتهازية لتحقيق مكاسب حزبية وانتخابية، وقد انتهى الأمر بإحالة الشرطية للتحقيق.

الحضن الجريمة

والنائب المدعو ماركوس كنوت عن حزب الأحرار اليميني المتطرف المُشارك في الحكومة يُؤخذ مثالاً على تيّار العدوانية، إذ فجّر مع آخرين الجدلَ ودفع بالشرطيّة إلى غرف التحقيق دون ذنب حقيقيّ ارتكبته، أقام ذنبها على منطق جافّ يفتقد لروح القانون ومعنى الإنسانية، وهو أن” مهمة الشرطة إنفاذ القانون، وليس احتضان من يعارضونه”.

هذا الحزب اليمينيّ المُعادي للمهاجرين واللاجئين والمُسلمين منهم على وجه الخصوص، قام بتوسيع عملية التحريض والتعبئة والحشد واستنفار نوازع الشرور عند من لديهم استعداد للتماهي مع خطابه المتطرّف في المُجتمع الدنماركيّ ليصنع قضية من لا شيء، ويحوّل “الحضن” وهو لحظة راقية وُلدت من الظرف الذي جرت فيه إلى ما يُشبه الجريمة، أو التّجاوز للقانون، ليُدخل شرطية إنسانة في أتون معركة سياسية وإعلامية وقضائية لم تخطر على بالها ولم تفكّر فيها وهي تتعاطف مع مواطنة مجنّسة أو لاجئة، والاثنتان تتشاركان العيش على نفس الأرض، وتحت نفس السماء حتى لو اختلفتا في الدين والعرق والقومية والأصول.

الحضن الذي استغرق ثوانيَ قليلة جسد معنى التعاطف الإنساني البسيط بين مسلمة وجدت أنها مُطالبة بقوة القانون الجديد أن تخلع نقابها الذي تعتبره جزءاً من لباسها وحشمتها وتدينها وثقافتها، وأن تتنازل عن جانب من حريتها الشخصية، وأن تكشف عن وجهها مُجبرة لا مُختارة.
كما جسّد حالة شرطية تنتمي غالباً إلى دين آخر أو لا تُؤمن بأي دين، ومهمتها تنفيذ القانون فعلاً، لكنها في الوقت نفسه قد لا تكون في داخلها راضية عنه، إنما تُذعن له بحكم وظيفتها، أو على الأقلّ لا ترفض القانون، إنما تأثرت بالمشهد الاحتجاجي النسائي الذي شاهدته، وتعاطفت مع الشعارات والهتافات التي كانت ترفعها وتطلقها السيدات المنتقبات، فكان تفاعلها العفوي هو هذا التقارب بين سيدتين تمتلك كل منهما قلباً أبيضَ، بينما هناك من الساسة والحزبيين والمثقفين وقادة الرأي من يريد استبدال اللون الأبيض بالأسود الغطيس.

ليس ألة

هذه اللحظة المميزة في قلب الاحتجاج أمر طبيعي، فالإنسان ليس آلة صماء يتم برمجتها بالتعليمات لتنفيذها دون عقل يفكر بالمنطق والصواب، أو قلب ينبض بالمشاعر والأحاسيس، لكن السياسة المتطرفة في كل بلد لا تنظر للأمر من هذه الزاوية السامية، إنما نظرتها تأتي من نافذة جامدة مُتحجّرة صماء فلا يعنيها غير الفوز في المعركة الدائرة سواء كانت حظر النقاب أو غيره، عبر فرض القرارات والقوانين لتحقيق مكاسب سياسيّة ولو بتدمير قيمة الإنسانيّة النبيلة.

الإنسان لم يُخلق أبداً ليكون عدوّاً لأخيه الإنسان، إنما نوازع الشر الشيطانية هي من تخلق العداوة والبغضاء وتجعل الإنسان يفتك بأخيه الإنسان، والساسة والزعماء والشخصيات المتطرفة في الأحزاب اليمينية واليسارية العنيفة في مفاهيمها للوطنية والقومية في الغرب، وكذلك نظراؤهم في مختلف بلدان العالم، سواء أكانت ديمقراطية أو مستبدة، هم من يحولون الأرض من جنة مُفترضة للتعايش السلمي الآمن بين جميع البشر إلى جحيم يقتل السلام والأمن ويحصد أرواح المليارات منذ بدء الخليقة وحتى اليوم.

محامي الشرطية برّر سلوكها بقوله إنها شعرت أنها تعاملت بشكل يتناسب مع الموقف في إطار دورها بوصفها “شرطية حوار”، وهو تخصص نشأ لتخفيف التوترات أثناء المظاهرات، وكما قالت موكلتي لو كان أي شخص آخر في الموقف نفسه لفعلت نفس الشيء، لذلك فالأمر لا علاقة له بارتدائها النقاب.

كلام عاقل يتماشى مع رؤيتنا وتحليلنا للفرد عندما تتجلى إنسانيته، وتتملكه قيم الحب والخير والطيبة والعطاء والتعاطف وهي الأصل في تكوينه وبناء شخصيته السوية، وما عدا ذلك من قيم وصفات سلبية دخيلة عليه هي ضد طبيعته وإفساد لسويّته.

أما عن مسألة النقاب الذي تتوالى عليه قرارات الحظر في أوربا بلداً بعد آخر، فإنه قضية دينية جدلية في البلدان الإسلامية نفسها فلا يوجد اتفاق عام حوله، هناك من يراه واجباً، وهناك من لا يرى ضرورة له، وفي بلدان إسلامية يُواجه بالمنع في مرافق ومؤسسات معينة، لكن حرية ارتدائه لا تزال مكفولة عموماً.

 ويجب تفهم طبيعة المجتمعات في الغرب وهُوية وقيم وثقافة وخصوصيات هذه المجتمعات ونمط الحياة السائد فيها، لذلك نرى أنّ مسألة النقاب والبرقع بحاجة للعلاج بشكل هادئ، ومن خلال الحوار والتفاهم بين ممثلي الجاليات المسلمة والحكومات للوصول لحلول تُطمئن المُجتمعات هناك بأن هُويتها ليست مهددة بحسب ما يروّج له دعاة “الإسلاموفوبيا”، أو من يُثيرون الفزع بأن هناك غزواً إسلامياً لأوربا المسيحية لتدمير حضارتها وقيمها وتاريخها.

اليهود الأذكى

قد يبدو مشهد النقاب غريباً وغير مألوف في الغرب، وقد يمثّل قلقاً مُتزايداً في ظل تفشّي أعمال العنف وممارسات الإرهاب التي تضرب في الشرق والغرب، كما قد يكون عائقاً أمام التفاعل والاندماج بين المسلمين ومُجتمعاتهم الجديدة، والاندماج بات أمراً شديد الأهمية، إذ لا يعقل أن يظلّ المُسلم يعيش في عزلة اختياريّة على هامش مجتمعه بعيداً عن التأثير فيه.
الاندماج ضرورة كبرى للتحوّل من المُواطن الضيف إلى المُواطن صاحب البيت مع الحفاظ على الخصوصيّة الثقافيّة والدينيّة، وجاليات أخرى قادمة من مناطق وثقافات مُختلفة لاتينيّة وآسيويّة وأفريقيّة نراها تندمج وتصير جزءاً من المُجتمعات.

اليهودُ هم الأذكى إذ يتغلغلون في مفاصل المُجتمعات والمُؤسّسات الرسمية والشعبية ومراكز القوى الناعمة في البلدان التي يعيشون فيها سواء أكانوا أصلاء أو وافدين، فلا يصيرون غرباء ويحافظون في نفس الوقت على سماتهم الخاصة لهذا يكونون أدوات تأثير قوية، يوظفون كل ما لديهم  في توجيه سياسات الدول والحكومات لخدمة وجودهم ومصالحهم وخدمة مصالح إسرائيل في نفس الوقت، وهم في أمريكا نموذجٌ لذلك، بينما المسلمون مهمشون، ففي هذا العام فقط تقترب أول مسلمة من دخول الكونغرس رغم هجرتهم لأمريكا منذ عقود طويلة.

التطرّف والعنف أضرا بصورة الإسلام وبكل ما يتفرع عنه من مظاهر في الغرب، وجعلا فئات من المواطنين هناك مسكونة بالخوف من كل ما هو مسلم ومن كل رمز إسلامي، ولعبت تيارات التشدد اليميني المنتشرة في كلّ البلدان الغربية على هذه المخاوف للصعود سياسيّاً وانتخابيّاً، المرحلة الحالية صعبة على المُسلمين في بلدانهم وعلى الجاليات في مهاجرهم وهي تستدعي الحكمة في التعامل وتتطلب التقارب والانفتاح وإزالة كل الصور المشوّهة عن المُسلم وعن دينه.

أزمة النقاب

ومع احترامنا للنّقاب ومن تختاره لباساً لها لكنه ليس القضية المفصلية للمُسلمين في الغرب، هناك ما هو أهمّ بكثير منها في بناء حياتهم ورسم حاضرهم والتطلع لمُستقبلهم وتمتين وجودهم وجذورهم في كلّ بلد يوجدون فيه، مهما كان عددهم، إذا كانوا يريدون أن يكونوا مُواطنين حقيقيّين وليسوا مجرّد هوامشَ على شواطئِ المُجتمعات.

النقاب لا يجب أن يكون مجالَ أزماتٍ للمُسلمين مع أوطانِهم الجديدةِ، ومن أخصّ أسسِ التفاعلِ الإنسانيِّ والتشاركِ المُجتمعي والتأثير السياسيّ وخوضِ مُعتركِ الحياةِ والبقاءِ والتجسيرِ والبروزِ هو الوضوحُ والصراحةُ عقلاً وفكراً وهدفاً، ووجْهاً أيضاً، في الغربِ، والشرقِ، وفي كلّ مكانٍ على وجهِ الأرضِ.

النّاس تتعارفُ وتتفاهم وتتآلفُ بألسنتِهم وعقولِهِم وملامحِ وجوهِهِم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه