النحاس.. والبنا.. والليبرالية المصرية.. وبيوت البغاء!

ربما يرجع قلقُ البعض من قولنا إنّ النحاس ألغى بيوت الدعارة، هو الخوف من أن ينافسهم أحدٌ في الانتخابات على «الشارع المُسلم»، ولو بعد حين!.

 

وكأنّي دستُ على لغم، فكان من الطبيعيّ أن ينفجرَ في وجْهي!

إذ أردتُ أن أبرهنَ على أنّ الليبراليةَ لا تعني العداءَ مع الدين وقيمِه، كما يصوّرُها الليبراليون الجددُ، ممن أطلقُ عليهم أنا «أطفال الشوارع»، أو «أطفال الأنابيب» الذين اكتمل نموُّهم بعيدًا عن الأرحام، من المتسوّلين على موائدِ الفكر، والذين يدفعونني كثيرًا للتمييز بين الليبراليّةِ المصريّة، وهذه الليبراليّةِ الزائفة، وكان من مُمثّلي هذه المدرسة الأزهريُّ سعد باشا زغلول، وخليفتُه في رئاسة «الوفد المصريّ» مصطفى النّحاس باشا ابنُ الكُتّاب والحافظُ كتابَ الله سبحانه وتعالى.

وقد كتبتُ منشورًا على منصّات التواصل الاجتماعيّ إن الليبراليّةَ المصريةَ ممثلةً في الأوّل هي التي وقفت في وجه كِتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشّيخ علي عبد الرازق، الذي يدور حول أنّ الإسلامَ دينٌ لا دولة. كما أنّ هذه الليبراليةَ ممثلةً في مصطفى النحاس هي التي ألغت بيوتَ البغاء في مصرَ. ولم أَكدْ أنشر هذه السطورَ حتّى كانت ثورةٌ عارمةٌ، نسيت دلالةَ المنشور، والهدفَ منه؛ فالليبراليةُ ليست في عداءٍ مع الدين، وهؤلاء الليبراليون الجددُ ليسوا أكثرَ من متسوّلين على موائدِ الفكر، فلم يقرأ أحدُهم كتابًا ولم يخطّ برنامجًا، وليس أكثر من ردّ فعل، يلتمس خطواتِ التيارِ الدينيّ، فيكون ضده ولو كان دينًا خالصًا أو موقفًا سياسيًا مُستقيمًا، مثلَ هذا العداءِ المبالغ فيه للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رغم أنه ليس مُنتميًا للإخوان مثلًا.

دور البنا:

كان التأكيدُ على أنّ من منع الدعارة هو الشّيخُ حسن البنّا، المُرشد العام المؤسّس لجماعة الإخوان المسلمين، فلما ذكّرنا القومَ أنّ البنّا لم يكن رئيسَ حكومة أو رئيسَ برلمان بيده اتخاذُ القرار، سواء إداريًا أو تشريعيًّا، كان التأكيد على أنّ هذا ضغطٌ من الشيخ البنّا مقابل ألا يخوضَ الانتخاباتِ البرلمانيةَ، وضاع هدفُ المنشور وسط هذا الجدل العقيم، وما أُوتي قومٌ الجدلَ حتى ضلّوا. وهناك من استكثروا أن يكون أحدٌ من غير الإسلاميّين قد يتخذُ هذا القرارَ، وكان عليَّ مجادلتهم بأنّ الحكمَ الإخوانيّ لم يلغِ تراخيصَ بيع الخمور في مصرَ، فلما أقرَّ بعضُهم بالعجز عن اتخاذ القرار والتسليم به، كان عليَّ أن أؤكّد أنّ هذا هو بيتُ القصيد!

فما بين النّحاس والبنّا لم يكن صفقةً بالمعنى المعروف، فقد فاجأ البنّا القوى السياسيّةَ بإعلانه خوضَ الانتخابات النيابيّة في سنة 1942، وهدّد الاحتلال الإنجليزيّ بحلّ الجماعة، لكنّ النّحاس رئيسَ الحكومة وصاحبَ الفضل المنكور، تحرّك لإقناع البنّا بالعدول عن القرار، وكانت له دوافعُ خاصةٌ أيضًا قالها لمرشد الجماعة، عندما تعمل بالدين وتنافس في السياسة فإنّك هنا لن تكون الشيخَ حسن، ولكنك «الشاطر حسن»، ثم تقدّم خطوةً للأمام وهو يسأل البنّا عن بواعثِه من وراء خوضِ الانتخابات، فيردُّ عليه من أجل إلغاء بيوت الدعارة، ليقول له اتركْ لي هذه فأنت لن تقدرَ على حشد النوّاب لإلغائها، لأنّك إذا وقفت أنت في البرلمان لتطالب بذلك، فسوف يحتشدُ الآخرون ضدك، لكن مصطفى النحاس الليبراليَّ لن يُزايد عليه أحدٌ!

محضر خير:

وإذا كان هناك مَن يتصوّرُ أنّها الصفقةُ التي رضخَ لها مصطفى النحاس خوفًا من مُنافسة الإخوان مع أنه يرأس حزب الأغلبية الكبيرة، فقد كان النحاس هنا «محضر خير» يعملُ على حماية الجماعة من قرار الاحتلال بالحلّ، وإذا كانت قصة الخوف من المُنافسة لكان البديلُ هو ترْكَ يد الإنجليز للتصرُّف، وليس الدخول في مُناقشةٍ مع البنّا، ثم لو لم يكن هذا القرارُ قد لاقى هوى عند النّحاس، لما قبله، لاسيما أنّ اتخاذَ القرار كان بعد الانتخابات وليس قبلها!

لقد بدا لي أنّ المنهجَ المقرّرَ لدى الإخوان هو أن الحسنةَ الوحيدةَ للإمام حسن البنّا هي إلغاء بيوت الدعارة، فلما وجد القومُ أنني أمنح امتيازًا للنّحاس بذلك نفروا خفافًا ونفروا جميعًا في حالة من الهياج، أضاعت الدلالةَ السياسيةَ للمنشور والمغزى منه، كما أضاعت قيمةَ الموقف الآخر الخاصّ بموقف سعد زغلول ضد كتاب «الإسلام وأصول الحكم»! وهذا الموقف الحادّ يقوم على أكذوبة وهي أنّ القوى السياسيّةَ المدنية هي التي قنّنت البغاء، وأنّها ليست مؤهلةً لإلغائه لولا ضغط الإمام البنّا صاحب هذا الإنجاز التاريخيّ، وهذا خطأ تاريخيّ، فبالإضافة إلى ما سبق نؤكّد على ما يلي: –

أولًا: إنَّ بيوتَ البغاء عرفتها مصرُ مع الدولة المملوكيّة، واستمرّت بعدها، وكان الموقفُ منها يرتبط بالموقف الأخلاقيّ لكل سلطانٍ، فمنهم من أعادها، ومنهم من ألغاها، والذي ألغاها كليةً كان محمّد علي باشا في الفترة من 1834- 1882، لتعودَ مرةً أخرى في عهد الاحتلال الإنجليزيّ، بل إنّ الاحتلالَ الفرنسيَّ جاء ومعه نِسوتُه اللاتي يعملن في هذا المجال، فالأمر هنا ليس مُرتبطًا بالنخبة السياسيّة المصريّة وبحكم الوفد!

ثانيًا: إنَّ الإلغاء الذي تمّ للبغاء بعد عام 1942، هو الخاصُّ بالقرى، واستمرّ الأمر في القاهرة والإسكندريّة، وإن بدأ الاستعداد منذ هذا التاريخ للإلغاء.

ثالثًا: إنّ الإلغاء بقانون لم يتم سوى سنة 1949، وبمشروع بقانون تقدّم به النائبُ عن الحزب السعدي سيد جلال، ولم يكن الأمر تنفيذًا لصفقة مع البنّا بمقتضاها ألا يخوضَ الانتخابات مُقابل ذلك، فقد رشّح نفسه في سنة 1945، وبعد ثلاث سنوات من اتّفاقه مع النحاس وسقط في هذه الانتخابات.

رابعًا: إنّ هذا القانونَ الذي صدر فضلًا عن أنه ليس نتاجَ صفقة انتخابيّة، فإنَّ صدوره كان بعد شهور من اغتيال الإمام البنّا في نفس العام.

خامسًا: إنّه إذا كان القانون الأوّل بإلغاء الترخيصِ القانونيّ لبيوتِ البغاء وهدم البيوت القائمة بالفعل، فإنَّ العقوبةَ القاسية تمّ إقرارُها بقانون عسكريّ على مزاولة هذه المهنة أو التشجيع عليها بعد عامَين من اغتيال البنا وفي سنة 1951!

عتاب الغزالي:

إنَّ النحاس باشا بعد لقائه مع البنّا، أطلق له العنانَ ليجوبَ البلادَ طولًا وعرضًا لنشر دعوته، لكن صحافة الإخوان كانت قاسيةً في الهجوم، وقد منحت حكومةُ الوفد للجماعة رخصة بجريدة يوميّة طلبا من البنّا للنحاس، وهذا الهجوم كان موضوعَ عتاب من الشّيخ الغزاليّ للإمام الشهيد، في لقاء جمعهما وحضره الأستاذُ خالد محمد خالد الذي أورده في مذكراته، فالنحاس لا يستحقّ منّا هذه القسوةَ يا مولانا.

لكنّه النحاس ضحية مواقفه المبدئيّة فلم يرد له القومُ الجميلَ فقط بالهجوم عليه، لكنّهم انحازوا مع الملك ضده، وفي واحدةٍ من الخلافات بينه وبين الملك، وعندما خرجت الجماهير تهتف «الشعب مع النحاس» خرج الإخوان وأحاطوا بقصر عابدين وهم يهتفون «الله مع الملك»، ثم تحالف الإخوان مع عددٍ من الضبّاط لإنهاء زمن الوفد والنحاس وعزله في منزله حتّى وفاته يرحمه الله في سنة 1965، كما أنّ هؤلاء الضبّاط التحقوا بالكلية الحربيّة بفضل قراره بصفته رئيسا للوزراء بالسماح لأولاد الفقراء بدخول هذه الكلية، ولولاه لما كان عبد الناصر والسادات وإخوانُهما ضباطًا أبدًا.

ربما يرجع قلقُ البعض من قولنا إنّ النحاس ألغى بيوت البغاء، هو الخوف من أن ينافسهم أحدٌ في الانتخابات على «الشارع المُسلم»، ولو بعد حين!.

يا لها من ماكينة جاهزة دائمًا للانتخابات!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه