الموجة الثانية من الربيع العربي

 

تتخذ الأحداث في مصر والمنطقة العربية في الأيام الأخيرة منحني متسارع نحو انفجار شعبي ضخم تتشكل إرهاصاته في الشوارع والميادين والمحال التجارية، نتيجة ممارسات متراكمة للأنظمة المستبدة الجاثمة على ماضي بلادنا وحاضرها وتأبى إلا أن تستمر في عملية اجتثاث الأمل القريب والبعيد لأجيال تستعصي على الاستعباد

 ففي المغرب العربي ينتفض الشعب الجزائري الحر رفضا لترشيح الرئيس بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة بينما هو في حالة مرضية تعجزه عن النطق بكلمتين أو الوعي بما يدور حوله، ويحتفل الشعب الليبي بذكرى سقوط النظام السابق في كبرى ساحات العاصمة  طرابلس بعدما استطاع حصار بقايا نظام القذافي في مدن معدودة، وها هي فلسطين والضفة تنتفض ضد أبو مازن الذي انقضت فترة رئاسته منذ سنوات رفضا لمشروعه التنازلي عن السيادة علي أرض فلسطين وسياسته المنحازة للمحتل في إدارة المشهد السياسي الفلسطيني، ثم مصر التي يمضي رئيس الانقلاب فيها بأقصى سرعته وقوته لاستعداء كافة أطياف الشعب المصري لتبدأ بشائر الأمل في الثورة التي تشبعت بها نفوس الناس بعد عجزهم عن استيعاب حجم الكوارث المتوالية في البلاد بداية من تنفيذ أحكام الإعدام في تسعة أبرياء استطاعوا برسائلهم أثناء محاكمتهم تجميع قلوب الناس حولهم، ثم السرعة في تنفيذ الحكم رغم الاشكالات القانونية المقدمة، ورغم الحملات الحقوقية لمنظمات عالمية طالبت بوقف تنفيذ حكم الإعدام فيهم ، ثم حادثة قطار محطة مصر وهي من أقدم المحطات في قارة أفريقيا  وحرق البسطاء أحياء علي مرأي ومسمع من العالم بعدما رفض السيسي أن يقوم بتطوير منظومة السكك الحديدية ليهدر المليارات في مشروعات غير مجدية ، ثم سلسلة حرائق في طول البلاد وعرضها في توقيتات متقاربة تفصل بينها الساعات، لتتعالي دعوات النزول والخروج علي النظام والثورة حتي إزاحته من أكثر من جهة ثورية وبصورة عفوية.

كل هذه الأحداث في الوقت الذي يصر فيه الغرب أن يكيل بعدة مكاييل، وما زالت تلك النظرة العنصرية ضد العرب والمسلمين تحركهم ليصير الإعدام مباحا هنا ومحرما هناك فيستمر في دعم المنقلب والمستبد ومن بلغ من العمر مبلغا ليظل العرب في حالة من العوز والتبعية فلا يستطيعون الانتباه لثرواتهم المهدرة، والتي تدفع ثمنا لسكوت الغرب، فهل هي موجة جديدة من موجات الربيع العربي؟ أم مأزق جديد تورط الشعوب فيه نفسها؟

الوعي الشعبي المتنامي ودروس الماضي

إن حركة الشعوب لا يمكن رصدها أو قياسها بعدة أحداث في فترات متقاربة، وإنما تتمثل حصيلة الوعي المجتمعي في تراكم الفعل الواحد مع اختلاف وسائل التعاطي معه ، ومنذ اندلاع شرارة ثورات الربيع العربي استطاعت الشعوب أن تكتسب مهارات وخبرات تجاوزت بها الحصار المضروب عليها منذ خروج الاستعمار العسكري لبلادنا وتسليم مقاليد الأمور لمجموعة من الحكام يمثلون القيد الجبري لضمان بقاء الفكر الاستعماري داخل العقلية العربية ، فقد خرج الاستعمار وبقيت النفوس مستعمرة ، أو ” قابلة للاستعمار ” كما وصفها المفكر الجزائري مالك بن نبي ، وفي لفظ آخر ” القابلية للاستحمار” كما وصفها الدكتور علي شريعتي المفكر الايراني ، طوقت الأنظمة المستبدة شعوبها تحت شعارات جوفاء وفتات من المتبقي من خيرات بلادها لتضمن عدم موتها وعدم حياتها ، وكذلك يفعل المستبد في كل زمن ، وظلت الشعوب قابعة تحت مقصلة الحكام بين الموت والحياة إلا في أوقات متباعدة تحاول فيها الخروج من ربقة القيد دون وعي ودون حساب لتبعات كل خطوة ، وفي غياب من القيادة المستنيرة التي تتجرد تماما في حراكها فيقع الشعب الجزائري مثلا في ” العشرية السوداء ” وتقع سوريا في الحرب الأهلية الداخلية والتي يحرص الحاكم علي إبقائها مشتعلة باعتبارها وقود بقائه ، وتنقسم العراق ، وتباد اليمن ، وتتم المجازر في مصر بينما العالم يتابع على شاشاته دون أن ينطق أحد أو يعترض في رابعة والنهضة والمسيرات المناهضة للانقلاب وفي المعتقلات وبقوانين يتم تعديلها خصيصا لآلاف من الأبرياء والمعارضين

وبما إن حركة الشعوب هي خبرات متراكمة، ولا يمكن التنبؤ بمساراتها، فقد انتفض فجأة الشعب الجزائري ليعيد للأذهان صورة الشعب الذي ضحي بمليوني شهيد في ثورة تحريره فيجبر العالم علي متابعته واحترامه والرضوخ لإرادته بدلا من الاستخفاف به وتنصيب رئيس في حكم الميت إكلينيكيا ليحكم شعب بهذا الحجم وهذا التاريخ، ويعلن الشعب تعلمه من الدروس السابقة فيهتف بالسلمية مسلكا، ويكرر العبارات نفسها التي ترددت في مصر “سلميتنا  أقوي من الرصاص” و”الشعب يريد إسقاط النظام” و”لا لحكم العسكر”. لقد تجاوزت حالة الوعي حدود القطر الواحد وعبرت لتشمل العروبة والدين واللغة والهوية لنجد رسائل مكتوبة من ثوار الجزائر تستنهض ثوار مصر علي الحراك حاملة معها دروس الماضي القريب ولا تسمح بتمرير اللعب بالدماء مرة أخرى

وفي مصر مرت البلاد بأسبوعين دمويين أصر فيهما قائد الانقلاب أن يرسل لشعبه رسائل تخويفية لتمرير الموافقة علي تعديل الدستور فيضمن  تمديد الحكم لنهاية عمره بحجج استكمال مشاريعه والتي لم ير منها الشعب سوي المزيد من الفقر والقمع والجهل فتحتل البلاد المرتبة الأخيرة في التعليم عالميا، وينهار قطاع الصحة، والزراعة بعد التنازل عن حصة البلاد في مياه النيل، والصناعة بعد غلق المصانع وتسريح العمالة، والتجارة بعد فرض الإتاوات ومضاعفة الضراب ما اضطر المدن الصناعية والتجارية لغلق أبوابها وترك الشوارع خاوية كما حدث في المدينة الصناعية بدمياط ومحالها التجارية وإثارة الغضب في قلوب الفئات التي لم تعرف البطالة يوما، في الوقت الذي لم يعد ينطلي علي الفئات البسيطة تلك الخدع من عنف الدولة ولصقها بتيارات طالما استخدمتها كفزاعة لتخويف الناس، وتحول الهمس لصراخ بعد أن تجاوب الناس مع دعوات النزول والمشاركة بالصافرات والطرق وتشغيل أبواق السيارات، لتنجح الفكرة وتكون المشاركة غير متوقعة، بل وينكسر حاجز الخوف أكثر فينزل الشباب للشوارع في مسيرات متفرقة وسريعة تشمل أنحاء الجمهورية، من دون أيديولوجية، من دون شعار ولا اتفاق في بداية أراها قوية وكبيرة وتشبه إلي حد كبير ارهاصات 25 يناير، غير أن الظروف مغايرة، والدوافع أقوي بمراحل من ثورة يناير المجيدة، إن الوعي يتنامى بين الشعوب، ولم يعد هناك مقدس غير الحرية والحياة الكريمة، والاستخفاف بعقليتها ما عاد يمكن اللعب به، وتطويع إرادتها ما عاد واردا، وأصبح من الصعب خداعها مرة أخرى.

أين التيار الإسلامي مما يدور؟

تصدر التيار الاسلامي المشهد في خمس استحقاقات انتخابية متوالية بعد ثورة  25 يناير ، وكان بمثابة الاختبار الصعب في الوقت الصعب، ووقعت الأحداث التي نعرفها جميعا وإن كانت ملابساتها لم تظهر جلية بعد، فحدث الانقلاب، ودفع التيار الإسلامي الثمن الباهظ، ودفعت البلاد مئات السنوات من عمرها الحضاري في تجربة قاسية بعد ثورة هائلة، ولست هنا ألقي باللوم علي فصيل دون آخر، أو طيف دون غيره ، فقد أخطأ الجميع وسقطوا في بئر خداع الثورة المضادة والتي دائما ما تصاحب كل ثورة كبيرة ، إنما تكمن الإشكالية في التعلم من الدروس كما تفعل الشعوب التي لا يحركها سوي الصالح المجتمعي العام ، تكمن الإشكالية في سرعة النهوض بعد السقوط ، وتلافي الأخطاء ، ففي الوقت الذي تظهر فيه نار الغضب الكامنة علي سطح الأحداث ، ويبدأ فيه الشباب في التحرك رغم القبضة الحديدية المفروضة وبدون قائد يوجهه علي أرض الواقع ، نجد رد فعل متبلد وغامض من قادة التيار الإسلامي المعتمد فقط علي أدبياته البكائية ظنا منه أنها تكفي لريادته من دون شروط. لقد استجاب الشباب الغاضب للنداء الثوري من دون الرجوع لقيادته التي ستنهار حتما إن ظل الموقف المتجمد هو الرد الحاضر لكل دعوة حراك، ونزل الشوارع ضاربا عرض الحائط بآلة الخوف المنتشرة في الشوارع وفي إطار التنظيمات، جاعلا وجهته حريته فقط، وإن لم تدرك القيادة تلك الحالة المتمردة وتستدرك طريقة إدارتها للمشهد فسوف تبدأ الثورة من الداخل عليه هو لتمتد لخارجه لتشمل كافة مظاهر الحياة في بلادنا. إن الأداء الصفري الذي تتخذه الحركة الاسلامية في مصر سوف يخرجها حتما من المعادلة، ولن ينفعها وقتها مبدأ الطاعة في المنشط والمكره، لسبب بسيط هو أن هؤلاء الشباب لم يتلقوا تربيتهم في الصالونات المغلقة، إنما ربتهم الشوارع والثورة والمعتقلات والغاز والرصاص والهجرة، فأضافوا إلي أعمارهم عشرات من سنوات الخبرة الحركية، وأصبح علي قيادتهم محاولة وجيه وتنظيم الانفجار القادم وليس منعه، فليس هناك من يمكن وقف إعصار تكون بالفعل في ذاكرة أمة قررت أن تتحرر.

فهل تعي الأنظمة الدروس المتتالية، كما تعيها الشعوب باعتبارها جزءا منها، وجزءا من حركة التاريخ؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه