الموت في أغسطس

عدد كبير من المذابح جرت أحداثها في مصر بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013

يكفي ان تقول: “رابعة” لينكسر وهم المسرحية التي تحول فيها “المنقذ الحاني” إلى “مصاص دماء”

(1)
للموت طعم ورائحة.. يموت الطعم بمرور الزمن، لكن الرائحة تبقى أبدية.
أغسطس أقسى الشهور، لأنه يغمرني برائحة الموت، لا أعرف سببا قديما لذلك الموقف الغامض من أغسطس، لكنني عرفت أن الشهر يحمل اسم الامبراطور الروماني الذي أسس إمبراطوريته على بحور من الدم،  يخصنا منها معركة إكتيوم البحرية التي أدت إلى مقتل أنطونيو وانتحار كليوباترا، وأعرف أنه شهر الشرخ العظيم الذي قصم ظهر المشروع العروبي عندما التهم الجيش العراقي جارته الصغيرة، فانفجرت ينابيع الدم في مشرق العرب، وعرفت أنه الشهر الذي كان الفقراء في قريتي يلقبونه على سبيل الهجاء بـ”شهر الباذنجان الأسود” تحالف مع الموت لاختطاف العديد من الأحباب، حتى جاء اليوم الذي تحول فيه أغسطس رسميا إلى “عاصمة للموت” أضافت اللون إلى الطعم والرائحة، فقد صار الموت منذ 14 أغسطس باللون الأحمر.. بلون الدم.
(2)
 أغسطس بمثابة سهم ملتهب لدرجة الاحمرار  يشير، إلى كف حمراء دامية من خمسة أحرف، مطبوعة على حيطان الذاكرة في مصر باختصار مفهوم، حيث يكفي أن تقول “رابعة” ليفيض بحر الوجع وتنتشر رائحة الكراهية والانتقام، ويعلو صوت المطالبة بالقصاص، وتنطلق رصاصات التبرير، وترتفع موجات الصدام والخلاف.. يكفي أن تقول: “رابعة” لينكسر وهم المسرحية التي تحول فيها “المنقذ الحاني” إلى “مصاص دماء” يباهي برحمته ومعجزاته بينما الدم يسيل من أنيابه أمام الجموع المستلبة، والضحايا التعساء المنقسمين

(3)
تعبير “انكسار الوهم” ارتبط في ذاكرة المثقفين بالمصطلح الذي أطلقه بريخت، ذلك الفنان المثقف عدو النازية، الهارب من جحيم هتلر إلى ملاجئ الفقراء الحالمين بمواجهة القهر وحياة أكثر عدلا، ومن المفارقات المسرحية التي تكسر الإيهام أيضا أن بريخت مات أيضا في 14 أغسطس، بالطبع لم يمت في “رابعة”، لكنه بالتأكيد مات في طريق “النهضة“!!

(4)
يتزامن مقالي اليوم مع الذكرى 61 على رحيل “بريخت” لكنني لن أكتب عنه، ويتزامن مع السنة الـ”رابعة على رابعة”، لكنني لن أكتب عن هذه الفاجعة الإنسانية من أي زاوية سياسية، فقد كتبت فيها 6 مقالات سابقة، وقد أعود بعد المناسبة للكتابة مجددا، لكنني في ذكرى الألم حيث يعود طعم الموت ليملأ الحلوق والقلوب، وتلتقي مرارته بفجاجة اللون وسجن الرائحة، لا يمكن لأي حديث موضوعي أن يكون لائقاً ولا مناسباً ولا مهذباً، وبرغم تلك الرغبة في تجنب “خزان الألم” يؤسفني أنني لا أستطيع الابتعاد كثيرا عن الموت، لأنه يظل يسيطر على تفكيري ووجداني بحيث لا يسمح لأي فكرة أخرى أن تنمو في رأسي، وتخفيفا على نفسي وعليكم، اخترت موتا جميلا.. موتا تحاور مع ضحيته حتى الألفة، وتحاورت معه الضحية حتى الصداقة والمناجاة، إنه  موت الشاعر الحبيب محمود درويش شريكي في الشعر وفي الحياة وفي الموت خلال أغسطس
 
(5)
عزيزي محمود.. مضيت، وكأنما أعجبك الفراق.. بالأمس سألتُ دفتر الأشعار عن قوافيك الجديدة، فجاوبني الصدى، تذكرت وعدى القديم بإنجاز (ديوان المأثورات الكاملة) وخجلت من كسلى، مرت الأعوام ولا يزال طعم موتك طازجاً كبرتقالة لا تذبل، هل تذكر عندما قلت لك ذات صباح مشمس على نيل القاهرة أننى «ينايرى متعصب» بينما أنت «مارسى» ولدت في الثالث عشر من شهر الأساطير، قرب صعود خديجة الشواهنة وفتيات فلسطين اللاتي صنعن بدمائهن عيداً لأرض فلسطين، فقلت لي معانداً إليوت: مارس أقسى الشهور. لقد أجاب الموت يا محمود وأخبرنا أن أغسطس أقسى الشهور.
(6)
ذهبنا إلى جنة الفقراء الفقيرة/ نفتح نافذة في الحَجَر/
لقد حاصرتنا القبائل يا صاحبي/ ورمتنا المحن/ ولكننا لم نقايض رغيف العدو بخبز الشجر
«أما مازال من حقنا أن نصدق أحلامنا، ونكذب هذا الوطن؟»
* يسأل محمود درويش، فأرسل إجابتي إلى اللاعنوان في كل المنافي: لا جديد يا محمود، إلا المزيد من السقوط والقليل من الكبرياء والمقاومة.. يغيب الوطن في أيامنا فيكبر في أحلامنا، ويطاردنا في المنام، حتى نصحو على كوابيس المرحلة الداعرة، نواصل الاستماع إلى معزوفة «الهجايص»، ونشاهد ترنح الخصيان والغواني على لحم الطرقات نحو القصر المضيء بنور العيون… نخاف، نجوع، ننزف حزنا، ونبكي كي نعود إلى أحلامنا
«نحن ما زلنا هنا/ ولنا أحلامنا الكبرى.. كأنْ نستدرج الذئب إلى العزف على الجيتار في حفلة رقص سنويّة/ ولنا أحلامنا الصغرى.. كأنْ نصحو من النوم معافين من الخيبة/ لم نحلم بأشياء عصيّة/ نحن أحياء وباقون/ وللحلم بقيّةْ» …… «وما زال في الدَّرْب دربٌ لِنَمشي ونمشي».

(7)
نحن سجناء هذا الواقع الرديء يا محمود، ضحايا هذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، لكننا لن نتوب عن أحلامنا مهما تكرر انكسارها..

تعلَّمتُ كل كَلامٍ يليق بِمُفردةِ الدّم كي أَكْسرَ القاعِدة/
تعلَّمتُ كُلَّ الكلامِ وفَككتهُ كَي أُركِّبَ مفردةً واحدة/
هي: الوطن
كم أنت بعيد يا وطني.. كم أنت بعيد أيها الأمل

(8)
لا تسألني عن القاهرة يا محمود، لا تسألني عن فلسطين، لا جديد إلا الهزائم والخيانات والمنافي، لا جديد في مصر.. لا جديد في العراق.. لا جديد في الشام والجزيرة والمغرب العربي، لا جديد في الجليل حيث حلمت أن تموت.. فـ”البروة” ما زال اسمها “أحيهود”، وأخوة يوسف مازالوا في غيهم، ونحن ما زلنا في انتظار السنبلة.. «ولَكننا سَوف نحيا، لأنَ الحياةَ حياة»

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه