الموت على إيقاع أعياد الميلاد

 

أبشع ما في الحياة أن يحاصرك العجز والقهر فلا تستطيع الكتابة عمّا يجري لأهلك في الوطن.

البارحة سقطت جرجناز مدينة الشّعراء والشّهداء والثّوار.. قبلها سقطت كفرنبل التي جابت لافتاتها العالم منذ بداية الثّورة، سقطت مدينة المثقفين والكّتاب والمتنورين، اليوم ينزح سكّان المعرة مدينة أبي العلاء صاحب رسالة الغفران، ينزحون إلى العراء والمجهول تلاحق طائرات روسيا قوافلهم لتقصف خيامهم وسياراتهم حيث يقفون في العراء..

غداً أو بعد غد سيكون دور أريحا مدينتي عروس مصايف الشّمال، سيدخل القتلة جبل السّماق ولن يجدوا في انتظارهم نجيب السخيطة ولا إبراهيم هنانو اللذين دوّخا الفرنسيين في أوائل القرن الماضي حين احتلوا الشّمال السّوري.

بالأمس أحرق رجال الخوذ البيضاء منازلهم في المعرة بأثاثها لأنّهم لا يملكون الوقت لنقل ما يملكون وقتهم كلّه لإنقاذ النّاس وتسيير قوافلهم النّازحة.

اليوم ابني يخبرني “سأفجّر البناء قبل أن أخرج لن أتركهم يستمتعون بشقى عمر أجدادي وأبي”..

اليوم لم أعد أملك سوى الدّمع والدّعاء.. الدّعاء الصّامت أضعف الإيمان.. فلم أعد أملك وطناً ذاك الذي كنت أتشبث بأزقته ودروبه وأشجاره ومقبرته حيث يسكن أسلافي وابني الصّغير.. ماضيّ ومستقبلي!

المحرقة في إدلب:

أواخر عام 2016 نشرت مقالاً في موقع الجزيرة بعنوان ” إدلب الخضراء هل ستتحوّل إلى أوشفيتز بيركينو؟”

كنت أرى بوضوح السّيناريو الذي رُسم لإدلب وها هو يجري الآن أمام عينيّ فأشعر بالعجز والقهر والذّنب لأنّي كنت أرى ولأنّ الرؤيا لديّ كانت شديدة الوضوح.

وقتها قلت إنّ على أهل إدلب، أهل النّخوة والكرامة، أن يتمتعوا بالبصيرة ويقولوا، لا، لاستقبال المُرّحلين قسرياً بالباصات الخضر إلى إدلب؛ لأنّهم يساقون إليها من أجل إبادتهم لاحقاً.

لكن النّاس في إدلب كانوا منشغلين في تأمين لقمة العيش لعائلاتهم ولضيوفهم وعلى الرغم من القصف الذي لم يتوقف طيلة ثلاث سنوات مضت وعلى الرغم من تهدم إدلب وريفها على رؤوس أصحابها إلا أنّ الناس ظلّوا متمسكين بالأمل ويحاربون بالصّبر والإيمان بفرج قريب من عند الله.

النّاس ماضون في الحياة يدفنون شهداءهم ويتحايلون على لقمة العيش وروسيا وشراذم الجيش السّوري والمليشيات ماضية في القتل والتّدمير ومصرة على إفناء إدلب بأكملها.. والعالم غارق في الصّمت كما يعتقدون!

العالم لم يكن يوماً صامتاً بل كان شريكاً في القتل، إمّا عن طريق الفيتو أو عن طريق الاحتلال المباشر أو عن طريق غض البصر وإرسال المزيد من الإرهابيين إلى سوريا للتخلص منهم ومن السّوريين..

الصّورة قاتمة جداً بل سوداء إلى حدٍ جعل النّاس يعلنون يأسهم وعدم ثقتهم بالمعجزة التي كانوا يتمنّون حدوثها والتي ظهرت كومضة حين أعلن أبو عيسى الشّيخ قائد صقور الشّام نزوله إلى الميدان في المعرة.. بصيص صغير ما لبث أن انطفأ مع سقوط جرجناز أمس.

وبدأ العد.. النّاس بدأت تعدّ المدن التي تسقط وتتحسس رأس المدينة التي يعيشون فيها ويبدأ الوداع.

لم أعد أستطيع الكتابة عن تآمر الفصائل وسيناريوهات التّسليم وتفكيك محولات الكهرباء والخذلان.. فالقهر الذي صرخت به سيدة من المعرة لتوقظ الضّمائر النّائمة هو فقط ما أستطيع الكتابة عنه، الصّورة التي تداولها ناشطون لسيدة مقعدة على كرسي متحرك من المعرة وهي تحتضن قطتها الشّيء الوحيد الذي استطاعت حمله معها في النّزوح هو ما يجب الكتابة عنه.

مآسي النّاس التي أغمض المجتمع الدّولي عينيه كي لا يراها بل شارك في حدوثها هي ما تهمنا كبشر.. البشر الذين تصرُّ روسيا و”ذيل الكلب” على إفنائها مع الحجر قبل أن يدخل جندي روسي ويلتقط صورة مع الخراب كما حدث في خان شيخون ويرفع علامة النّصر، وكما دخل مراسل قناة روسية جرجناز ورفع علامة النّصر وقال “لم نجد أحدا، لم يوقفنا أحد” في إشارة إلى أنّهم هزموا الإرهابيين، لكن لا أحد يريد أن يقتنع أنّه لا وجود إلا للمدنيين لا وجود لأحد فعلاً سوى النّساء والأطفال الذين قتلهم الطّيارون بمنتهى الوحشية.

بوتين والأسد:

استعاض بوتين والأسد مجرما الحرب عن جبنهما بالطّيران فهم لا يدخلون مدينة إلا بعد إفناء أهلها والتّأكد من خلوها من كلّ مظاهر الحياة. فقد تعلّم الرّوس الدّرس من حروبهم السّابقة ولا يريدون خسارة جنودهم على الأرض.. وقد صورت السّينما العديد من الأفلام عن حربهم ضدّ “الإرهاب” في الشّيشان، كيف كانوا يقتلون النّساء والأطفال وكبار السّن، كيف كانوا يتقدّمون بالدّبابات، يقصفون المنازل بالمدفعية ويحرقونها،

الجنود الرّوس في سوريا أجبن مما صورتهم السّينما فلم يدخلوا خان شيخون إلا بعد تدميرها بشكل كامل بالطّيران وخروج آخر شخص من سكّانها. ولم يدخلوا جرجناز، وهم أجبن من دخول سراقب وأريحا..

اليوم يمكن للسوري أن يشير إلى أيّ دولة في المنطقة أو في أوربا أو إلى أمريكا ويقول لهم أنتم قتلة تواطأتم مع القاتل، وبإمكانه أن يشير إلى كلّ الفصائل المسلّحة ويقول لهم أنتم خونة ويشير إلى هيئة التّفاوض أو الائتلاف الوطني ويقول لهم أنتم تاجرتم بدمائنا في آستانة وسوتشي.

تركنا العالم للموت وها نحن نموت بصمت وسط ضجيج احتفالات العالم بعيد الميلاد المجيد.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه