المقاول العائد.. وسد النهضة اللغز

محمد علي خلال لقائه مع ميدل إيست آي

عندما يتم الكشف عن مليارات المنشآت الفندقية والرئاسية في البلد الفقير جداً -حسب شعار النظام- لا يتحرك البرلمان، رغم أن صميم عمله مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية.

لم يكن ضابط الاستخبارات الأمريكي بحاجة للهرب إلى كوبا، أو فنزويلا، أو كوريا الشمالية، أو حتى إيران، أو أي بلد في خصومة مع أمريكا، أو أي مكان يضمن فيه أمانه الشخصي، ثم يقوم بكشف المكالمة الهاتفية الخطيرة بين الرئيس ترامب، ونظيره الأوكراني زيلينسكي في 25 يوليو الماضي، إنما بقي داخل بلاده، وتقدم بشكوى بشأن المكالمة، وتم إخفاء هويته فقط..
 وهو حالياً يمارس حياته داخل بلاده، ولا يتعرض للتشويه والاتهامات الثقيلة من قبيل التآمر والعمالة والخيانة، بل يُوصف بأنه يقدم خدمة جليلة لوطنه إذ قام بتنبيه المشرعين والطبقة السياسية والشعب وقوى المجتمع المدني بمحاولة الرئيس استغلال نفوذه للتاثير على الديمقراطية، وتكافؤ الفرص، والعدالة، ودولة القانون، وهذه ضمن القيم التي تصنع قوة أمريكا وصورتها البراقة.
 

المقاول المصري

في المقابل خطط المقاول المصري محمد علي طوال عام للفرار إلى إسبانيا بعد تصفية أعماله وبيع ممتلكاته في مصر، ليحصل على الأمان قبل أن يقوم بإفشاء ما لديه من أسرار تتعلق بأعماله مع الجيش والرئاسة من بناء فندق، وفيلل، واستراحات، وقصور رئاسية بالمليارات في وقت ترفع فيه السلطة شعار أن البلد في حالة فقر شديد وعلى الناس الصبر والتحمل، وسريعاً تنتقل الأسرار من الاندهاش بشأنها، والتشكيك فيها، إلى اليقين بصدقيتها، بعد التأكيد الرئاسي العلني ببناء قصور فعلاً، والتشديد على مواصلة بناء قصور.
وفي مثل هذه الحالة عندما يتم الكشف عن مليارات المنشآت الفندقية والرئاسية في البلد الفقير جداً -حسب شعار النظام- لا يتحرك البرلمان، رغم أن صميم عمله مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، وكل مؤسسات الدولة، فهو الحارس المؤتمن على مصالح الشعب الذي يمثله ويتصدى للدفاع عنه كما يفعل البرلمان الأمريكي في مواجهة الرئيس في قضية المكالمة الهاتفية، وقضايا أخرى عديدة، وكذلك البرلمان البريطاني في معركته الطويلة والحادة مع الحكومة بشأن اتفاق الخروج من الاتحاد الأوربي.
ولم يتجه الإعلام في مصر لمناقشة قضية المال العام، إنما أدار حملات عكسية عبر البحث في التاريخ الشخصي للمقاول، ونشر كل ما يشوه صورته، بينما صلب القضية هو مدى جدوى إنفاق مليارات الجنيهات في مبان دون أثر لها في التنمية، أو محاربة الفقر المزعوم، وياليت السلطة وإعلامها وكل أصواتها تصدوا لفتح حوار بنّاء حول إنفاق هذه المليارات، ونجحوا في تقديم رسالة عقلانية مقنعة بجدوى وضرورة المباني الرئاسية، والحاجة للفندق، وكل إنفاق آخر شبيه بهذا الإنفاق في خطة التنمية وبناء الإنسان المصري ورفع مستوى معيشته.
لكن يتلقى محمد علي سيلاً من البلاغات والاتهامات والقضايا التي تحوله إلى شيطان، ثم ها هو يعود مجدداً لمنصات الإعلام عبر حوارات معه كاشفة عن أنه لايزال قادراً على إثارة النقاش العام، وأنه صار حالة مؤرقة للسلطة قد لا يطويها النسيان رغم الهدوء الظاهر بعد فترة صعود وجدل صاخب عبر فيديوهاته والتفاعل الواسع معها.  

سد النهضة والغموض

وعلى نفس المنوال، ومع كل ما يُقال عن تعنت إثيوبيا في قضية سد النهضة، ورفض مطالب مصر في طريقة ملء السد وتأثير ذلك على حصة مصر من المياه وتراجعها وتعرض البلاد للعطش، فلا تتم مناقشة صريحة لهذه القضية الأخطر التي تتسم بالغموض في تعامل السلطة وأروقتها معها، لا في البرلمان، أو الإعلام، أو أي نافذة للنقاش العام الجاد، كما لا يتم التفكير في دعوة الخبراء والمتخصصين والمفكرين والسياسيين المنزهين عن الهوى والغرض للجلوس حول طاولة حوار رصينة عميقة تمتد لساعات أو أيام للبحث المكثف في كيفية التصرف بشأن هذه الكارثة ووضع كل الخيارات للتحرك.
وإذا تم مثل هذا البحث الواجب حدوثه، فلا بد أن يستدعي أولاً دراسة طريقة التعامل مع الملف دون مجاملات أو ضغوط خلال أربع فترات حكم؛ مبارك، المجلس العسكري، مرسي، السيسي، لتقييم التعامل مع قضية السد بحيادية وموضوعية شديدة بهدف وضع اليد على سلبيات الأداء خلال كل إدارة للبلاد، ثم وضع الحلول والخيارات أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحويلها إلى قرارات عملية، وهنا يكون الاحتشاد وراءها له معني وقبول عام، كما يكون خالصاً لوجه الله والوطن، وليس لمجرد الحشد الإعلامي دون معرفة أحد بما يجري داخل الغرف المغلقة المعتمة منذ سنوات، ودون استشارة أحد من النخبة، أو العامة خلال المفاوضات، أو عند صياغة اتفاق المبادئ، أو أثناء التوقيع عليه.
الخبراء الحقيقيون مُغيبون، والشعب بلا وجود عند صناع القرار النهائي، وهو القرار المحتكر في أيدي فرد، أو مجموعة أفراد لا نعلم من هم، ولا كيف يتداولون مناقشة القضايا المصيرية التي لا تتعلق بالسد فقط، إنما غيرها من القضايا الأساسية، ومنها مثلاً: نهج وخطط التنمية، والاستدانة من الهيئات المانحة وعلى رأسها  صندوق النقد والالتزام بمطالبه، وما استتبع ذلك من تحرير الجنيه، وإلغاء الدعم، وموجات الغلاء، ومصاعب المعيشة، وقس على ذلك قرارات مصيرية أخرى تتعلق بالحاضر والمستقبل.

دولة القانون 

في أمريكا، حدثت ضجة هائلة بشأن مكالمة ترامب التي دعا فيها رئيس أوكرانيا لإعادة فتح  قضية فساد أحد أطرافها نجل جون بايدن نائب الرئيس السابق أوباما، وبادين أحد المترشحين عن الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة 2020، وتركيز الديمقراطيين والإعلام على المكالمة باعتبارها تستهدف تشويه الخصم المفترض لـ ترامب، وهو كرئيس مُطالب بأن يكون صارماً في الالتزام بالقانون والدستور والشفافية في ممارسة عمله، فقد جاء ليحكم بنزاهة، لا أن يوظف سلطاته وصلاحياته لخدمة مصالحه الشخصية، أو تسهيل بقائه في الرئاسة.
دولة القانون فوق الرئيس المنتخب، في أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا وكندا، وفي كل البلدان التي تحترم قواعد القانون وتطبقها بصرامة، ولهذا يتريث الجمهوريون ولا يعرقلون إطلاق التحقيق مع ترامب، وسبق وتخلى الرئيس الفرنسي ماكرون عن حماية حارسه الشخصي المقرب منه (ألكسندر بنالا)، وتركه للقضاء لمحاسبته على انتهاكه للقانون واعتدائه على المتظاهرين في عيد العمال في قضية أثارت هجوماً واسعاً على ماكرون في حينها.

لغز الألغاز

لكن لم يكن أحد سيعلم بما فجره المقاول محمد علي لولا فراره للخارج، وإذاعته في فيديوهات، وفي مسألة السد لا أحد يعلم بالفعل حتى الآن كيف تفكر السلطة في معالجة الأزمة؟، وما هي مساراتها فيها، كأنها لغز الألغاز؟. وهل اجتماع السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا أمس الأول في روسيا سيفضي إلى حل حقيقي، أم هو مجرد لقاء وصورة مشتركة وبيان لتلطيف وتهدئة الأجواء، دون أن يعلم المصريون ماذا ينتظرهم في مجهول ذلك السد حيث التعامل الغامض الأحادي معه مستمر.
وإذا كان هناك اعتبار للسياسة، ولقوى المعارضة، مع وجود برلمان حقيقي، ورأي عام له تقديره، لتغير مسار التعامل مع قضية سد النهضة واتجه لأداء مختلف استناداً على مشاورات ونصائح ووجهات نظر أصحاب الخبرة والاختصاص، والمكونات الوطنية المخلصة، والمؤسسات الفاعلة، وهذه القضية حالة آنية أخرى لغياب المعرفة بكل تفاصيلها، وفقدان الرؤية حول مسارات المعالجة الناجعة، وتأكيد أن الديمقراطية هي الطريق الأوحد في حركة البلدان دون مطبات أو سقطات.

غرف الحكم المفتوحة 

لهذا يستحيل التشكيك في أن الديمقراطية وغرف الحكم المفتوحة المفهومة هي نموذج الحكم الأمثل خلال هذه المرحلة من التاريخ مهما أفرزت أحياناً بعض مظاهر إساءة استخدام السلطة كما فعل ترامب، فالمؤسسات المستقلة، والقوى الناعمة الحرة، تقف بالمرصاد لأي انتهاكات وتمارس دورها الرسمي والشعبي في المحاسبة وحماية الديمقراطية.
ولا يمكن المقارنة بين الديمقراطية الدستورية التي تجعل السلطة المنتخبة في خدمة الشعب ولفائدته، وبين الاستبداد والسلطة المطلقة التي تجعل الحاكم وصياً على الشعب ومهيمناً على المؤسسات.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه