المعلم أحمد الخير.. الصورة الأقرب للشهيد

 

في تلك الجمعة الحزينة من فبراير/ شباط الماضي، كان الشهيد السوداني أحمد الخير يحاول جاهداً التحامل على ألامه المبرحة، وآثار الضرب الوحشي على جسده المنهك المنتهك، فقام وصلى بالمعتقلين داخل مقر جهاز الأمن، بمدينة (خشم القربة) شرق السودان، صلاة مودعٍ، دون أن يشعر ربما، بأنه سوف يغمض جفونه للأبد تحت وطأة التعذيب، ويفتحها كيقونة لشهداء الثورة، مفجراً بذلك غضب الشارع السوداني، بشكل سارع على نحوٍ لافت ومثير، في إنهاء حقبة نظام الرئيس المعزول عمر البشير .

صور ملحمية

تحولت المشاهد الأخيرة في حياة أحمد الخير إلى صور ملحمية، قميصه الممزق، وشيبته البادئة، وكتاباته الجسورة التي ألهمت الثوار معاني البطولة والثبات، بينما اكتمل بغيابه تحرير الإرادة السودانية من القهر والاستبداد، فبقدر ما كان موته صادماً ومروعاً، كانت محاكمته التي أسدل عليها الستار أخيراً بالحكم بإعدام قتلته، انتصاراً للعدالة.

 العدالة التي سعى أحمد الخير قبل ارتقائه لتحقيقها، وقد عاني في سبيل ذلك كل صنوف العذاب، حتى أنه لحظة اعتقاله ورميه داخل السيارة دون أدنى اعتبار للكرامة الانسانية، انهال عليه أحد المتهمين بالضرب وهو يصفعه بعبارة قاسية” يا زول ما تقول لي جنابو أنا ملك الموت” .

ناضل من أجل المعلمين

اكتسبت قضية الشهيد أحمد الخير أهمية بالغة في مسار تنكبات الثورة السودانية، لأن الرجل كان مربياً للأجيال، وكان يدافع بضراوة من أجل تحسين أجور المعلمين، فلقى عنتاً شديداً، من قبل النظام السابق، والمعارضة التي أهملت قضايا العاملين، حد أن المعلم في المدارس السودانية يتلقى راتباً، لا يكف لاسكات صرخات الجوع والحاجة، أقل من (50) دولاراً، كمان أن ميزانية التعليم المصرح بها سنوياً لم تتعدى ال3% وهى القضية التي ناضل لأجلها الأستاذ أحمد الخير، وطرق فيها أعظم الأبواب، منها باب الشهادة، لكنها مع ذلك، ورغم مرور نحو عام على الثورة، لم يتحقق منها شيئاً، سوى دموع الطلاب المتضامنة، والطباشير المخضب بعرق المعلمين داخل فصول الدراسة المتهالكة.

صون كرامة السودانيين

تبدو محاكمة قتلة الشهيد أحمد الخير هى الأولى بعيد مطالبات مستمرة بالقصاص لدماء الشهداء، بما فيهم الذين فقدوا أرواحهم أثناء فض اعتصام القيادة نهاية رمضان المنصرم، فضلاً على تخلق رأي عام يسعى بدأب لينال كل مسيء العقوبة التي يستحقها، إلى جانب أهمية صون كرامة وانسانية السودانيين، واستبشاع أساليب التعذيب والاهانة وانتهاك الحقوق داخل السجون والمعتقلات .

سعى المؤتمر الشعبي الذي انشق عن نظام الانقاذ بقيادة الدكتور الراحل حسن الترابي إلى تبنى قضية الشهيد أحمد الخير، باعتبار أن أحمد الخير ينتمي إليهم تنظيمياً، أو بالأحرى ينتمي للتيار الاسلامي، وقام بتحريك الدعوى وحشد هيئة الاتهام، بينما عجزت بقية القوى السياسية، أو حتى قوى الحرية والتغيير التي صعدت بإسم الشهداء إلى سُدة السلطة عن ملاحقة بقية القتلة، وبدا للكثيرين، وسط شكوك متنامية، بالتواطؤ بين بعض المدنيين والعسكريين، لدفن تلك الملفات، ملفات شهداء الثورة، مرة وإلى الأبد 

قاضي الثورة

ولعل أكثر ما يبدو مثيراً هو أن القاضي (الصادق عبد الرحمن الفكي) الذي بات يعرف بقاضي الثورة هو الذي حكم على البشير في قضية الفساد المالي، وكذلك حكم في قضية المعلم أحمد الخير، ما يعني اختياره بعناية للتعامل مع ملفات ذات حساسية سياسية، بل هى الأكثر جدلاً، في وقت تتنكب فيه حكومة الثورة جادة الطريق، كما أن الحكم يتزامن أيضاً مع الذكرى الأولى لثورة ديسمبر/ كانون الأول، ومع جسارة هائلة في الحق والمنافحة عن الضعفاء تمتع بها الشهيد المعلم، في هذا الوقت من العام السابق، بشكل ملهم، مع خليط من المشاعر والألم، والاحساس الخانق بالفقد المرير، فقد مناضل مقدام وهب حياته الغالية فداء لتخليص الشارع السوداني من عذاباته .

صوت الشهيد سلمية سلمية

من الصعب جداً فصل ثورة أحمد الخير عن تلاحم الشعور القومي لنيل الحرية كاملة، والعبور إلى دولة الديمقراطية، وهى التي غالباً سوف تنتصر في النهاية، بذات المعنى الذي أستوحاه المهاتما غاندي “عندما أيأس أتذكر أنه عبر التاريخ كان سبيل الحب والسلام هو دوما المنتصر، كان هنالك جبابرة وقتلة ولبعض الوقت كانوا لا يقهرون، لكنهم في النهاية دائماً ما ينهارون” يذكرنا بذلك أحمد الخير، الذي كان داعية للسلام والمحبة، وهو يشهر صوته بالهتاف ” سلمية سلمية “

لا أحد سيفلت من العقاب

الموت داخل المعتقلات تحت وطأة التعذيب النفسي والبدني ليس أقل شرفاً من مواجهة الرصاص، بل أنه يمنح الخلود، سواء أن كان صاحبه طالباً للحرية على طريقة سبارتاكوس، أو عاش في زمن هكتور مروض الخيول، أو كان مثل قائد ثورة اللواء الأبيض علي عبد اللطيف، فإن أحمد الخير مثالاً ناصعاً للبطولة، ولفرط إبائه يصعب عدم تجسيده كثائر سوداني نادر، مشى بثبات لحتفه الباهر، وعبد الطريق لمن بعده، فهو أيضاً قبل كل شيء نقل الغضب من الهامش إلى المركز، كما أنه أيضاً أقام منصة للعدالة بعد غيبة طويلة، ليذكير بأن ضمير الانسان أقوى من السلطة الباطشة، وأنه لأ أحد سيفلت في النهاية من العقاب .

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه