المعارض الناعي لمبارك ثوري أم مريض!

الغريب هو صدور عبارات الترحم والنعي والمواساة والمدح من أشخاص لهم مواقف متناقضة مع معناها، وهو ما يشير إلى زيف مواقفهم أو زِيف مواساتهم

 

 عقب الإعلان عن وفاة محمد حسني مبارك، سارع البعض بالتحذير من أنه لا شماتة في الموت، وانتشرت عبارات الترحم والنعي والمواساة والمدح، وهو أمر طبيعي، وأيضا انتشرت بعض تعليقات الشماتة وهو أيضا أمرٌ طبيعي ومتوقع.

أما غير الطبيعي فهو صدور عبارات الترحم والنعي والمواساة والمدح من أشخاص لهم مواقف متناقضة مع معناها، وهو ما يشير إلى زيف مواقفهم أو زِيف مواساتهم.

عندما قامت ثورة 2011 وانتهت جولتها الأخيرة بخلع حسني مبارك، كانت حيثيات العزل كافية لوضع حبل المشنقة حول رقبته، وهي الحيثيات التي اعترفت بها الدولة ممثلة قيادتها بالمجلس العسكري آنذاك، وتم تدريسها في كتب المدارس ومنها أصدارُ أوامر قتل المتظاهرين من الشباب، والفساد والانهيار بالدولة، وبصرف النظر عن السيناريو الذي حدث بعد ذلك، ومحاور ومعطيات المؤامرات التي شكلت هذا السيناريو، الذي انتهى بتبرئة مبارك ورجاله من معظم التهم الموجهة إليهم، ووضع معظم الشباب الثائر في السجون، وهروب المئات للخارج بفعل البطش والمطاردات الأمنية، والأخطر قتل المعارضين بالآلاف في مذابح بشعة مثل رابعة والنهضة ومحمد محمود وماسبيرو وسيارة الترحيلات، إلا أن المتغير الإيجابي الوحيد هو اتساع رقعة المؤمنين بثورة 2011، وهم أنفسهم المعارضون للنظام العسكري الحاكم الآن، الذي يعتبر امتدادًا لنظام مبارك، استولى على الحكم بفعل ثورة مضادة ومؤامرات ليس مجالنا الحديث عنها الآن.

إلا أن الأمر العجيب الذي يجب التوقف عنده وإعمال العقل للعديد من التساؤلات “المريبة”، هو قيام عدد ليس قليلا من المعارضين للنظام الحالي والمنتمين لثورة 2011 بنعي مبارك برسائل عاطفية تحمل ألفاظا تمجده وتبجله، رغم غضبهم من تبرئته في المحاكمات ومطالبتهم طوال الوقت بإعدامه!!!

الشماتة المشروعة

أعترف أن للموت عند المصريين جلالا ورهبة، وأن الشماتة في الموت من المحظورات وأقدر هذا، ولهذا فموقف عدم الشماتة في مآل شخص هو أمر إيجابي، أما الموقف السلبي المريب فهو المدح في المتوفَى وتبجيله وتكريمه ونعته بما ليس فيه من صفات، وخاصة لو كانت يده ملوثة بدماء الآلاف من المصريين، سواء بقصد أو غير قصد، وخاصة لو صدر من معارضين مشتتين في بلاد الله هروبا من بطش النظام الممتد.

موقف عدم الشماتة في الموت نتعامل معه جميعا باعتباره موقفا دينيا عقائديا، ولكني أراه موقفا أخلاقيا محمودًا مصدره عدم الاستقواء أو منازلة شخص لا يمتلك القدرة على الرد عليك أو مواجهتك، هذا في العلاقات السوية اليومية، أما في التعامل مع الأحداث الكبرى والتي تتعلق بمصير الأوطان والشعوب أو التعامل مع الشخصيات العامة فإن الأمر يخضع لمعايير الشهادة ولا مجال لمخالفة الحق تحت أي مبرر، وهذه تعاليم رسول الله صلى الله عليه سلم ، فد جاء في صحيح البخاري ، كتاب الجنائز، وأورده أيضا النَّسائيِّ- أنَّه: “مَرُّوا بجِنازَةٍ على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأثْنَوْا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وجَبتْ، ثم مُرُّوا بجِنازةٍ أخرى فأثْنَوا عليها شرًّا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وجَبتْ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، قولُك الأولى والأُخرى: وجبتْ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الملائكةُ شُهداءُ اللهِ في السَّماءِ وأَنْتُمْ -أي: أيُّها الأُمَّةُ أو المؤمنون- “شُهَداءُ اللهِ في الأرْضِ”

الشاهد من هذا الحديث أنه لا تجوز الشهادة للميت بما ليس فيه، حتى لو كان مدحًا وثناءً، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن شهداء الله في الأرض، وهكذا ينتفي المبرر العقائدي في عدم ذكر مساوئ الميت، والأكيد أن هناك أسبابا أخرى وراء هذه النزعة الشاذة، وأعتقد أنها تتعلق بمصداقية صاحبها فليس كل من شارك في التحركات الثورية ثوريٌ، فالحياة السياسية في مصر مملوءة بتقاطعات وتداخلات، جعلت من الصعب التفريق بين الطالح والصالح، واختلت المعايير فلم يعد الانفعال الثوري والتشنج دلالة على الصدق، بل يمكن أن يكون دلالة على عكسه، ولهذا فأنا لا أستبعد أن تكون المجاملات لمبارك بعد موته نابعة من أصحاب مواقف مهتزة ومصالح متداخلة، ولكن دعونا نتعرف عن الأسباب التي جعلت من الشهادة الإيجابية لمبارك أو الترحم عليه جريمة لا تغتفر.

تدمير الأمة

بيان مساوئ مبارك خلال فترة حكمه أمرٌ لا يحتاج للعناء وأمر عصي على أن يُحصى، فالأمر يتعلق بأمة انهارت من القمة إلى الحضيض، والأسلوب الخبيث الذي يحاول تجميل فترة مبارك بمقارنتها بالانهيار الشديد في فترة حكم “السيسي” غير مجدٍ لسبب واحد بسيط وهو أن نظام السيسي هو نتيجة لنظام مبارك وامتداد له بصرف النظر عن المقارنات الجزئية بين الفترتين، وأنا على يقين أنه لو استمر مبارك في الحكم لكنا قد وصلنا إلى نفس التردي والانهيار، حتى مشاريع التخلي عن سيادة الأرض وتمكين إسرائيل والتبعية للخارج هو مخطط كان يسير بشكل ممنهج منذ عشرات السنوات، أما عن تفاصيل الانهيار والمصائب التى عانى منها المصريون فحدث ولا حرج وكما قلت صعب حصرها لذلك سأكتفي بعنوانين لأحداث عشناها كلنا.

في عام 1985 اُغتيل الجندي المصري سليمان خاطر داخل السجن إرضاء لإسرائيل بعد أن قام الجندي بتنفيذ التعليمات الصادرة له بحماية نقطة حراسته، وأطلق النيران عن أفراد مدنيين أصروا على اقتحام النقطة باستهتار رغم تحذيره لهم، ووقف مبارك ليعلن أنه مجنون وأعلنت الدولة أنه انتحر رغم تقارير الطب الشرعي التي كشفت عن مقتله.

في عام 2002 ونتيجة الفساد وانهيار المرافق تفحم جثمان 361 مواطنا مصريا في حريق قطار ليلة عيد الأضحى.

في عام 2005 وعشية ليلة الانتخابات الرئاسية شهد قصر ثقافة بني سويف أكبر محرقة راح ضحيتها 50 من كوادر الثقافة والمسرح في مصر بسبب الإهمال والفساد والاستهتار.

في عام 2006 غرق 1300 مواطن مصري على العبارة السلام المملوكة لرجل الأعمال ممدوح إسماعيل المقرب من رجال الحكم، وتم تسويف الموضوع وتهريب رجل الأعمال والتعتيم الاعلامي بواسطة إعلاميين فاسدين تحت إشراف صفوت الشريف.

في ثلاثين عاما  هي كل فترة حكم مبارك انتشر الفساد إلى حد غير مسبوق، وانهارت البنية التحتية وتم فتح الباب لتصدير الغاز لإسرائيل بأسعار زهيدة، وتم عمدا الإجهاز على المصانع الكبرى وبيعها من خلال صفقات مشبوهة فاسدة وتسريح العمال وانتشار البطالة، وشاعت مطاردة المعارضين وإلقاؤهم في السجون والتزوير في الانتخابات البرلمانية بشكل فج ومريب، وتواطأ نظام مبارك مع أحزاب المعارضة الفاسدة في الاجهاز على الوطن ونشر الفساد .

ثوريون أم مرضَى؟

كما قلت لكم الأمر صعب حصره ويحتاج لمجلدات، وكل هذا أدى إلى غضب الشعب عام 2011 وخرج ينادي برحيل مبارك، ولسنا بصدد مناقشة ما آلت إليه الأحداث، ولكن نعود إلى حيث بدأنا- أن نفاجأ ببعض من الذين ثاروا على نظام مبارك وطالبوا بإعدامه وما زالوا مطاردين حتى الآن يؤبنون الرجل ويبكونه بل أن البعض منهم عدد له من المحاسن ما يضعه في مصافِ الأبطال، وهو ما جعل البعض ينظر إليهم نظرة شك في كونهم إما مرضى بمتلازمة ستكهولم التي تجعل المخطوف أو الأسير يتعاطف مع خاطفه بحكم المعاشرة الطويلة، أو أنهم مصابون بعقدة المازوخية التي تجعلهم يشعرون بالتلذذ من الاضطهاد، أو أن ميولهم الثورية زائفة والتحاقهم بمعسكر المعارضة مرتبطٌ بمصالح يحققونها.

كل هذا تحت مظلة “له ما له، وعليه ما عليه”، والحقيقة أنه له ماله، وعلينا ما علينا، هو له ماله من أموال وثروات كدسها ومصالح حققها، وعلينا ما علينا من آلام وانهيارات وبؤس جنيناه ونقبعُ فيه ولهذا لن أذكر أي محاسن لميتنا، فأنا كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهود الله في الأرض.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه