المصالحة الشعبية..نعم ولكن!!

نجح العسكر، ومعهم بقية أطراف غرفة الثورة المضادة إذن في إيهام قطاعات كبيرة من الشعب بقرب حدوث حرب أهلية إذا استمر مرسي في الحكم.

الجريمة الكبرى التي ارتكبها الجنرال عبد الفتاح السيسي بخلاف الانقلاب هي تقسيم الشعب المصري إلى قسمين أو أكثر، حتى يتمكن من استردد الحكم للعسكر مرة أخرى من المدنيين الذين حملتهم إليه الجماهير عبر عملية ديمقراطية لم تشهد لها مصر مثيلا في تاريخها كله.

كان العسكر وبينهم السيسي يدركون أنهم لن يستطيعوا استرداد ما فقدوه في ثورة يناير إلا بتقسيم الشعب وإثارة العداوة والبغضاء بينه، تطبيقا حرفيا للمبدأ الاستعماري “فرق تسد”، فاخترع العسكر فزاعة الحرب الأهلية التي توشك أن تداهم البلاد تحت حكم الرئيس مرسي، رغم عدم وجود أي مؤشرات حقيقية لذلك، كانت الحجة التي ساقتها أن الشعب منقسم، وأن من انتخبوا مرسي هم بالكاد 52% من الناخبين (أي نصف المجتمع فقط)، وهي مقولة تكشف غياب أي قناعة بالديمقراطية، التي أتت وياللمصادفة بفرانسوا أولاند رئيسا لفرنسا في ذاك الوقت وبذات النسبة أو أقل قليلا، والذي ظلت شعبيته تتراجع خلال سنوات حكمه ولكن أحدا لم يقل إن المجتمع الفرنسي منقسم، أو أن الرئيس أولاند فقد شعبيته وعليه أن يرحل قبل أن يكمل مدته.

نجح العسكر، ومعهم بقية أطراف غرفة الثورة المضادة إذن في إيهام قطاعات كبيرة من الشعب بقرب حدوث حرب أهلية إذا استمر مرسي في الحكم، ثم حشدوا هذه القطاعات للخروج ضد الرئيس في مظاهرات 30 يونيو 2013، ثم عمقوا هذا الانقسام بعد انقلابهم المشئوم في 3 يوليو 2013، وغنى مطربهم”انتوا شعب وإحنا شعب..ليكوا رب ولينا رب” وخاطب السيسي تلك القطاعات الشعبية بـ”انتوا يا مصريين” باعتبار أن غيرهم من أبناء الوطن من مناهضيه ليسو مصريين، ونجحت خطة العسكر بالفعل في تقسيم الشعب، ونشر الكراهيية بين أبنائه حتى وصلت إلى الأخ وأخيه، والابن وأبيه، والزوجة وزوجها، وتفرقت الكثير من الأسر فهذا الجزء من الأسرة رافض للانقلاب وذاك داعم له، هذا يغني “تسلم الأيادي تسلم يا جيش بلادي” وذاك يغني “تتشل الأيادي اللي بتقتل ولادي”.

لا يمكن لعاقل أن يتجاهل هذا التقسيم، والشرخ المجتمعي العميق الذي صنعه الانقلاب بين المصريين بهدف استمرار سيطرته عليهم، استلهاما لتاريخ عسكري حافل بهذه الجريمة بدءا من فرعون مصر”إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (4القصص).

ولا يمكن لعاقل أن يتجاهل الآثار المجتمعية لهذا الإنقسام على الأسر المصرية التي شهدت الكثير منها حالات طلاق، وعراك، وخصام استمر بالشهور، بل ربما بالسنوات، وشهدنا من يطلب من شقيقه أن لا يحضر جنازته لأنه شارك في مظاهرات التفويض، ومن يبلغ عن أخيه أو أحد أقاربه ليتم اعتقاله، صحيح أن هذه المظاهر هدأت الآن كثيرا، ولكن بعضها لا تزال قائمة، فكثيرون ممن انقلبوا على السيسي، وصاروا يلعنونه كل صباح لا يزالون يحتفظون بداخلهم بشحنات كراهية ضد أشقائهم في الوطن الذين سبقوهم بإحسان في مقاومة السيسي منذ اليوم الأول، ولا يزال هذا القسم من المصريين رافضا أو متخوفا من عودة الإسلاميين رغم رغبته في الخلاص من السيسي الذي أذل البلاد وأفقر العباد.

ومع عودة الوعي للمصريين بحقيقة الأوضاع، وانكشاف الأوهام، وهو ما ترجم في تراجعات كبيرة ومتواصلة لشعبية السيسي، أدركت أجهزة النظام خطورة هذا التطور فعمدت إلى إعادة نشر المكارثية من جديد، والمكارثية تنسب إلى النائب الجمهوري الأمريكي جوزيف مكارثي(1950) الذي حرض الشعب الأمريكي على المثقفين والمعارضين السياسيين متهما إياهم بالشيوعية بدون دليل في وقت كانت الشيوعية مجرمة في الولايات المتحدة، وقد بدأ السيسي شخصيا حملة الكراهية الجديدة حين دعا وسائل الإعلام لنشر الفوبيا بين المصريين من احتمالات فشل الدولة، في استدعاء مكرر لاسطوانة وصل على نغماتها إلى الحكم، وعلى الفور بدأت الأذرع السياسية والبرلمانية والإعلامية عزفها، فهذا نائب يقترح تشريعا بنزع أبناء الإخوان عن أبائهم، وذاك صحفي يطلب بمعاملة الإخوان معاملة النازيين الألمان، واستئصال من تبقى منهم داخل مصر،وثالث يطالب بحرمان من يشتبه بانتمائه للإخوان من المخصصات التموينية والخدمات الحكومية الخ.

وقف موجات الكراهية

في الأغلب لن تجد مثل هذه الدعوات لمزيد من الفرقة استجابة كسابقاتها قبل 4 سنوات، وخاصة بعد هذا الفشل المتواصل للسيسي، وبعد انكشاف كل الخدع التي ساقها للمصريين، ومع اكتشاف قطاعات واسعة أيضا حجم الكذب والإفتراءات التي ألصقها العسكر بحكم الرئيس مرسي وبجماعة الإخوان، ولكن هل يكفي الاعتماد على تلك العوامل لوقف روح الكراهية والانقسام في المجتمع؟أم أن الأمر يحتاج تحركات قوية لاستعادة لحمة المجتمع وكل الأصوات المناهضة، حتى ننزع من السيسي أحد أهم عناصر قوته التي يستطيل بها علينا؟

من حسن الحظ أن القيادات الحقيقية للحراك المناهض للانقلاب بدءا من التحالف الوطني لدعم الشرعية الذي تأسس عشية الانقلاب مباشرة، تدرك أهمية المصالحة المجتمعية ووحدة الشعب، ومنع الصدام بين فئاته وتياراته  كضرورة لمواجهة الحكم العسكري واسترداد المسار الديمقراطي، وهو ما ورد في وثيقة الرؤية الاستراتيجية للتحالف مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وتكرر بصيغ متنوعة في وثيقة بروكسل في مايو/أيار 2014، ووثيقة المجلس الثوري( أبريل/نيسان 2015) التي نصت في جزئها الثاني المادة الخامسة على بذل كل جهد لتحقيق مصالحة مجتمعية عامة بين كل أطياف المجتمع المصري(باستثناء القتلة) وصولا إلى الجبهة الوطنية المصرية (يوليو 2017)، ومع هذا الوضوح في الوثائق التي كتبها قادة وسياسيون كبار، فإن أي دعوة الآن للمصالحة المجتمعية تواجه ببعض الرفض من أطراف مختلفة لا ترغب في إتمام ذلك، وإذا كان مفهوما أن العسكر وأذنابهم لديهم مبرراتهم لمواجهة أي جهد لتحقيق هذه المصالحة باعتباره سيكون موجها بالأساس ضد وجودهم في السلطة، فمن غير المفهوم أن يرفض هذه الدعوة نفرا من أنصار الشرعية ونفرا ممن ينتمون للقوى الليبرالية واليسارية رغم أن الجميع أصبح في الهم والغم سواء.

دعوة زوجة البلتاجي

قبل عدة أيام أعلنت السيدة سناء عبد الجواد زوجة الدكتور محمد البلتاجي ووالدة الشهيدة أسماء ترحيبها بكل دعوات المصالحة الشعبية  والمجتمعية التي من شأنها التصالح مع مكونات الشعب المصري، بمن فيهم من كان يؤيد هذا الانقلاب، ثم بات معارضا له، وقد أيدت شخصيا دعوة أم الشهيدة أسماء، ولكنني فوجئت بمن يعترض بدعوى أنها مبادرات بلا مقابل، وأنها تمثل انبطاحا لا يليق، وأنه لا يمكن ابدا الالتقاء مع من حرض على القتل ورقص على الأشلاء، وشمت في المقاومين الخ، وهذه الردود عكست تشوشا سياسيا كبيرا لدى أصحابها، وخلطا بين الدعوة لمصالحة مجتمعية تستهدف استعادة لحمة المجتمع التي مزقها الانقلاب حتى يتمكن من مواصلة الحكم، وبين الدعوات لمصالحة سياسية مع النظام وهو أمر غير مطروح، والنظام هو أول من يغلق بابه، وحتى الذين فهموا الدعوة على حقيقتها ومع ذلك رفضوها لم يكن لديهم مبرر موضوعي لذلك، مرددين أنه لا يمكن التصالح مع المحرضين والشامتين حتى وإن تابوا وندموا مخالفين بذلك نصا شرعيا حيث إن الله سبحانه “يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات”، وإنه سبحانه وتعالى تعهد بالغفران لـ “الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم” وإذا تساوقنا مع هذا الكلام في مجمله فإننا سنظل في عداء مع ملايين المصريين الذين تعرضوا للخديعة ولكنهم يدركون الحقيقة الآن، وسنكون كمن يفرض على نفسه حصارا طوعيا، لنتحول مع الزمن إلى هنود حمر في وطننا، فهل هذا ما يريده الرافضون للمصالحة الشعبية؟!

المصالحة الشعبية والمجتمعية تحتاج إلى خطاب سياسي وإعلامي جديد متصالح مع المجتمع، متفهم لهمومه ومشاكله ومشاغله، مفرق بين أئمة الإستتبداد والفساد وبين عموم الشعب المغلوب على أمره، بين المجرمين من قادة القضاة والإعلاميين ورجال الأعمال، والشرطة والجيش، وبين عموم تلك الفئات والشرائح التي لا تملك سلطة القرار، وإن كنا نطالبها بأن تحتكم لضميرها الديني والوطني قبل تنفيذ أي قرار، وأن تمتنع عن تنفيذ ما فيه ضرر بمصر والمصريين حتى لو كلفها ذلك حياتها وليس فقط وظيفتها.

المصالحة الشعبية والمجتمعية تحتاج خطابا مطمئنا للخائفين سواء كانت مخاوفهم حقيقية أو موهومة، مثل الأقباط، والمثقفين، والفنانين، ومؤسسات المجتمع المدني، والعمال، والمهنيين والقوى الشبابية إلخ، فهل يقدم مناهضو الإانقلاب(إسلاميين وليبراليين) هذا الخطاب الجامع حتى يتمكنوا من التقدم خطوة مهمة على طريق الخلاص من حكم العسكر؟ أم سيستمر بعضهم في الاستجابة بدون وعي لمؤمرات السيسي بتمزيق الشعب، وتحريض بعضه على بعض حتى تخلو الساحة له؟!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه