المسلمات الغائبة وإحياء الليبرالية في مصر

فوجئت بأن المرشح الإخواني لم يستخدم الخطاب الطائفي فقد كان غير مضطر نظرا للشعبية الجارفة التي تحيط به فقمت مدفوعا بما تربيت عليه أثناء دراستي للفلسفة برصد الأحداث بعيدا عن الانتماء

 

ربما كانت ردود الأفعال على موت الرئيس الأسبق محمد مرسي داخل قفص المحاكمة، هو السبب وراء هذه المناقشة، إلا أن ما سوف أطرحه هو علة مزمنة مصاب بها المجتمع السياسي في مصر قبل هذه الواقعة بكثير، وهي العلة التي من أهم نتائجها؛ وقف نمو حركة المعارضة بكل فصائلها وتآكلها بفعل عوامل ذاتية، في مواجهة معسكر فاشي وطواغيت تتميز بالاتساق والتناغم والرؤية الواضحة لأهدافها.

المدخل

تعليقات الشماتة على موت الرئيس الأسبق التي أطلقها البعض من أنصار النظام الحالي لم تلقَ اهتماما ولا اندهاشا، فهي تدخل في دوائر التوقع والتسليم برداءة هذا النوع من البشر، إلا أن الذي أدهشني هو تعليقات بعض رموز الليبرالية واليسار الذي أشرف بالانتماء إليه، صحيح أنهم لم يستخدموا بذاءة فريق النوع الرديء، إلا أنهم ركزوا على ملاحظة تحمل تحذيرا من أن ينسينا التعاطف مع الراحل رؤيتهم السلبية لفكره وفترة حكمة وجماعته!

لن أنتقد موقفهم أخلاقيا أو أقول لهم “اذكروا محاسن موتاكم” فأنا لست من أنصار المواجهات الأخلاقية للرؤى والمواقف السياسية، ولكني أريد أن أذكرهم بثوابت فكرية حول الحقوق العامة للبشر والمجتمع، بصرف النظر عن اختلافات الأفكار فيه، وأذكرهم بأن المجتمعات التي تحرص على حماية الحقوق العامة أكثر من حرصها على حماية الأفكار الخاصة بالمجموعات والجماعات والأيديولوجيات، هي المجتمعات الأكثر تقدما والأكثر سيادة في العالم.

والعكس صحيح يتجلى في المجتمعات التي تقدم فيها الجماعات والأيديولوجيات والمجموعات أفكارها على حساب حماية الحقوق العامة لكل البشر.

وإن كانت مناسبة كلامي تتعلق بالشماتة في موت الرئيس الأسبق إلا أنني أقول إن هذا السلوك متبادل بين كل المعسكرات، سواء من شمت في اعتقال البعض من المعارضين من القوى المدنية بسبب مواقفهم من جماعة الإخوان وصمتهم  على جرائم العسكر تجاههم في رابعة العدوية والنهضة، أو من شمت في موت الرئيس السابق، واعتقال عناصر من جماعة الإخوان بسبب مواقفهم من القوى المدنية وصمتهم على جرائم العسكر تجاههم في محمد محمود وماسيرو، وهي الحالة المتكررة بصور مختلفة حتى داخل الجماعات التي تحمل أيديولوجيات مشتركة، في حين أنه ليس هناك خلافات أو تناقضات أو اختلافات في معسكر من قام بالانتهاكات والقتل والحرق والاعتقال في حق كل من الفريقين!

وينسى الجميع أن حرية الرأي والتعبير والدفاع والحق في الحياة الكريمة هي مبادئ أساسية لا يمكن الحياة من دونها ومهدرة في المجتمع الذي تحكمه الفاشية، ما يجعل الجميع في حالة ضعف وتشرذم ويقدم معارك الخلاف الثانوي عن معارك الحياة الرئيسية.

الليبرالية الغربية

نشأت الليبرالية الغربية لمواجهة سلبيات الأيديولوجيات التي تمثلت في حروب بينها هددت بتدمير القيم والحقوق الإنسانية مقابل سيادة وهيمنة الأيديولوجية وانتصارها على الأيديولوجيات الأخرى، ولهذا كان هناك دائما صراع بين الليبرالية والأيديولوجيات المختلفة، فقد رأى الاشتراكيون والشيوعيون في الليبرالية نوعا من أنواع التمييع الطبقي الضار بهدف التطبيق الاشتراكي، في حين نظر إليها اليمين باعتبارها فوضى وكفرا وربما إلحادا!

ورغم هذا الصراع الدفين بين الأيديولوجيات والليبرالية فإن الجميع في صراعه اليومي في مواجهة الاستبداد والاستغلال كان يتشدق بمقولات الليبرالية، من دون العمل بها، وفي مقدمتها مقولة “فولتير” المشهورة “قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك”.

وحتى حزب الوفد الذي كان يحمل لقب “بيت الليبرالية المصرية” لم يعرف الأداء الليبرالي وكان في كثير من المواقف شريكا في التآمر مع الملك أو الإنجليز ضد الاتجاهات الأخرى مثله مثل الاشتراكيين والإخوان! إذا هي حالة مصرية وليس حال جماعة أو أيديولوجية.

 ما علينا، لسنا بصدد الحديث عن تاريخ الجماعات السياسية والفكرية في مصر، ولكننا نناقش أزمة قد تنال نيرانها الجميع.

 والحقيقة أن الليبرالية التي اعتمدت على الدفاع عن حقوق فطرية في مواجهة الصراع الأولي بين الخير والشر، لاقت أسوأ مصير لها ولأتباعها عندما اصطدمت بمنتج جديد من الصراعات فرضته الأيديولوجيات والأفكار والمصالح.

ففي الولايات المتحدة يعلن أستاذ العلوم السياسية في جامعة نوتردام ” باتريك دينين” فشل الليبرالية في الولايات المتحدة حيث يرى أن تاريخ العالم يتأرجح بين حكم الخير وحكم الشر، بين حكم المعتدل وحكم المتطرف، بين حكم اليمين وحكم اليسار. ولكنه في الولايات المتحدة، يتأرجح بين اليمين؛ حكم الجمهوريين، تشجيع استثمارات الرأسماليين (لتعود الفائدة لهم). وبين اليسار حكم الديمقراطيين، مراقبة استثمارات الرأسماليين (بواسطة الحكومة، باسم الشعب). ومن هنا أعلن الرجل فشل الليبرالية في الولايات المتحدة.

وإذا كان “دينين” قد خص الولايات المتحدة بفكرته، فإن المنطق يؤكد أن نفس الرؤية تنسحب على كل المجتمعات وخاصة تلك التي تتعاظم فيها الصراعات الضيقة للجماعات، ودعوني أبسط الأمر لكم من خلال مثال لحادث شخصي مررت به منذ سنوات.

تجربتي

كنت أعمل في صحيفة يسارية، وكان هذا متسقا مع أفكاري الاشتراكية رغم الخلافات التفصيلية مع الحزب الذي تنتمي له الجريدة، وكانت الأمور تسير على نحو ما، حتى تم تكليفي بمهمة متابعة إعادة انتخابات مجلس الشعب بين قيادة إخوانية وقيادة يسارية من الحزب الذي تتبعه الصحيفة وكان مسيحيا، وكان الافتراض والتوقع أن القيادة الإخوانية سوف تستخدم الخطاب الطائفي في مواجهة المرشح اليساري، وكانت مهمتي الكشف عن هذه الوقائع، ولكني فوجئت بأن المرشح الإخواني لم يستخدم الخطاب الطائفي فقد كان غير مضطر نظرا للشعبية الجارفة التي كانت تحيط به في المحافظة، فقمت مدفوعا بما تربيت عليه أثناء دراستي للفلسفة من حيادية ليبرالية برصد الأحداث بعيدا عن الانتماءات وهو ما لم يلقَ قبولا في جريدتي، حتى حدث أن اشتبكت مجموعة من الشباب الإخواني في معركة طفيفة مع أنصار المرشح اليساري بعد أن تجاوز المرشح اليساري في كلماته عن المرشح الآخر، ما أثار انفعال الشباب، إلا أن القيادات الإخوانية أسرعوا باستيعاب الأمر والاعتذار، فقد كان مركز مرشحهم قويا ومحسوما وفي غنى عن هذه المعركة التي قد تضره (ويبدو أنها كانت مفتعلة) وأشيع وقتها أنني تعرضت للاعتداء وهو ما لم يحدث، ومن ثم طلب مني رئيس مجلس إدارة الجريدة كتابة تفاصيل المعركة والاعتداء الذي تعرضت له، فقلت له إنه لم يحدث وهو ما أثار غضبه، وتعرضت بعدها للتنمر الوظيفي الذي انتهى بفصلي، وأثناء الأحداث المحيطة بفصلي من الجريدة اتصل بي أحد قيادات الجماعة وكانت تربطني به علاقة إنسانية جيدة وقال لي “احنا بنشكرك إنك شهدت في حقنا شهادة كويسة”، وكانت إجاباتي” هذه ليست شهادة هذا رصد مجرد للأحداث، ولو كنت تعرضت للاعتداء كنت كتبت أني تعرضت للاعتداء”، وكان الرجل خفيف الظل فقال لي “ما تجاملني يا حاج” وضحكنا، الشاهد أن كلا الطرفين المعارضين للنظام كان يسعى لتطويع المواقف والأحداث لحسابه بعيدا عن الموضوعية ومعايير الحقوق التي تحكمها قواعد الليبرالية، الأول أراد مني أن أكتب ما لم يحدث والثاني تصور أنني لم أكتب انحيازا ومجاملة له، وبالطبع كان الخاسر هو أنا لأنني غير منتمٍ لأي من الجانبين.

هذه الرواية التي أوضحت بها رؤيتي تتعلق بحادث محدود، ولكنها على المستوى الإنساني متكررة حيث تنهار كل القيم والمواقف المجردة والحيادية وعدم الانحياز تحت أقدام الحروب والصراعات بين الأيديولوجيات والأفكار المتصارعة، والتي تنتهي غالبا بانهيار الجميع وضعفه أمام طرف ثالث فاشي مستبد لم يبدد قوته في أية مواجهات مع معارضيه الذين قاموا بمهمته نيابة عنه.

وكما قلت في مضمون كلماتي: إن الأزمة لا تكمن فقط في الصراع بين الأيديولوجيات التي أجهزت على القيم الليبرالية، إنما في وجود قوى فاشية مستبدة وطواغيت متسقة الأفكار موحدة الأهداف لا تعرف الأفكار ولا الأيديولوجيات التي تفرقها وتضعفها، وتظل طوال الوقت تشعل الصراع بين الجماعات لتحصد في النهاية شعبا ضعيفا مهيئا للاستغلال والبطش ومص دمائه.

ليس أمامنا إلا حل واحد دونه الفناء يتمثل في إحياء قيم الليبرالية وتنحية مصالح الجماعات والمجموعات، وإخضاع الأيديولوجيات لمهمة واحدة هي الإقرار بمبادئ الليبرالية وتنمية القيم الإنسانية والدفاع عنها كحقوق طبيعية متساوية بين كل المواطنين من دون تفريق طائفي ولا عرقي في مواجهة الاستبداد والفاشية والاستغلال، وعودة قيمة الإنسان الحر بالمعنى المطلق للحرية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه