اللهاية: من حمام الملاطيلي.. إلى شنبو في المصيدة

في اللغة لهي به “أحبّه” لهي عنه “أعرض عنه وترك ذكره” واللهاية تستخدم للأطفال لإسكاتهم فيلهون عن الطعام وتصبح اللهاية عادة لا يستطيعون التخلي عنها.. والعادة تتحوّل إلى إدمان يصبح فطام الطفل عن اللهاية أصعب من فطامه عن الرضاعة. لا شك أن من اخترع اللهاية منذ بدء التاريخ هنّ النساء اللواتي حملن على عاتقهن تربية الأطفال وإطعامهم. وقصة المرأة التي كانت تطبخ الحصى في عام الرمادة ورآها عمر بن الخطاب وسألها عمّا تفعله فشكته إلى الله لأنه لم يرسل لأطفالها طعاماً، قصة معروفة. ومنها تناسلت مجموعة الاختراعات التي تلهي الطفل عن التعلق بأمّه وملاحقتها ومنها الألعاب ومشاهدة أفلام الكرتون وغيرها مما يشد الطفل ويلهيه.

الإلهاء السياسي

والحكام يقومون بإلهاء الشعوب بقضايا فرعية لإسكاتهم وإلهائهم عن القضايا الرئيسة. لكنّ الوسائل التي يستخدمونها مختلفة وينصب معظمها في الجنس. والأداة الأكثر شيوعاً هي المرأة! ففي تاريخ الجاسوسية اشتهرت الكثير من الفنانات والنساء اللواتي استخدمتهن القوى السياسية بقيادة المخابرات لابتزاز وإخضاع شخصيات سياسية كبيرة، وقضية كريستين كيلر التي أقامت علاقة مع السفير الروسي والوزير البريطاني وأدت إلى إسقاط الوزارة معروفة كما عرفت قضايا فنانات في عهد الملك فاروق بالتجسس. وأكثر قضايا التجسس إثارة كانت بإدارة صلاح نصر رئيس المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر، وعرفت شبكات أخرى مثل شبكة ميمي شكيب، وشبكة الممثلة الأردنية “رهيجة” وهو اسم أطلق عليها بعد تمثيلها لشخصية بهذا الاسم. تقوم هذه الشبكات بتصوير فيديوهات جنسية لشخصيات سياسية لابتزازها فيما بعد. أكثر الدول التي اشتهرت بتصوير فيديوهات جنسية لشخصيات معروفة “من الإعلاميين والشخصيات السياسية” وابتزازهم والضغط عليهم هي الإمارات التي تستغل هذه الفيديوهات في تسيير سياسات الدول الأخرى.

اللهاية الفنية

بعد نكسة حزيران كان لابد من إلهاء الشّعب بقضية تبعده تماماً عن التّفكير في الهزيمة والانكسارات التي تبعتها فاستخدمت الكوميديا للتنفيس عن القهر المكبوت في صدور الناس. أوّل فيلم كوميدي بعد النكسة للفنان “فؤاد المهندس” بعنوان “شنبو في المصيدة” لكنّ الكوميديا لم تؤدِ الغرض لذا؛ استخدمت الأفلام الجنسية لسدّ الحاجة! وكان أكثرها إثارة للجدل فيلم “حمام الملاطيلي”. كتب القصة كاتب شاب اسمه إسماعيل ولي الدين اكتشفه يحيى حقي وزكّاه لدى صلاح أبو سيف الذي اشترى الرواية منه وعمل الفيلم. وبذكاء لعب صلاح أبو سيف على وتر البيئة الشعبية واستغل قصص وقضايا تلامس الحس العام وتجعل الفيلم مقبولاً لدى الجمهور.

الضجة التي أثيرت حول الفيلم كان المقصود بها إلهاء الناس بقضية أخلاقية بعيدة عن سياسة الدولة على الرغم من تحميله بعداً سياسياً والقول إنّه يحكي عن انهزام المجتمع بعد هزيمة حزيران.

وتجرأت دور السينما على عرض أفلام جنسية كاملة من دون قطع مما أثار الناس بين مؤيد ورافض. في لبنان كانت الأفلام الجنسية تباع بالعملة الصعبة وفي الأردن كانت سينما النصر تعرض فيلما أمريكيا بعنوان “عشيقة ابنها” وأجبرت السينما على نزع اليافطة المثيرة حفاظاً على الذوق العام. واشتهر في ذلك الوقت فيلمان عربيان “ذئاب لا تأكل اللحم” و”سيدة الأقمار السوداء” الذي تبرأ حسين فهمي فيما بعد من دوره فيه بينما لم تتبرأ ناهد الشريف من دورها.

الفنانات التائبات والمشايخ

التوبة أيضاً لهاية توضع في فم الشعوب، استغلها السادات للترويج لسياسته، وصارت موضة الفنانات التائبات وتحولهن إلى داعيات الشغل الشاغل للناس وأوّل التائبات “شمس البارودي” الشيخة شمس بطلة فيلم حمام الملاطيلي! الذي شاركها فيه الفنان محمد العربي الذي تحول إلى داعية أيضاً . وكثرت القائمة وطالت ولن تكون سهير البابلي التي تحولت إلى داعية آخرهن.

لكنّ الفنانات التائبات تراوحت مواقفهن فبعضهن عدن إلى التمثيل وهن يضعن الحجاب “صابرين”، والبعض نزعن الحجاب في عهد السيسي “شهيرة وسهير رمزي” والبعض حافظن على مسارهن “هناء ثروت وشمس البارودي”

لهاية فكرية

في وضع مثل الوضع السوري من الصعب أن يتلهى الشعب عن قضيته الأساسية مع هذا استطاع النظام السوري خلق قضايا فرعية يشتبك الشعب باختلاف أطيافه حولها في الوقت الذي تقصف فيه مدن وتدمر بنيتها التحتية ويقتل الأطفال بالطائرات الروسية كما تنهب الأراضي والنفط والماء والناس تختلف حول قضية تافهة في الظاهر مع هذا تشغل مساحة كبيرة من كتابات المثقفين في سوريا على مواقع التواصل الاجتماعي.

أحدهم حفر صورة “عشتار” إلهة الخصب على شجرة، هبّ كثيرون لإزالة الصورة وقطع الشجرة.. وتحوّل الأمر إلى سجال بين العلمانيين والإسلاميين حول الأمر.

كتب أحد الأساتذة الجامعيين على الفيس بوك منشوراً عن إزالة صورة عشتار لخص رؤيته للأمر بأنّ حفر صورة عشتار على شجرة ليس موقفاً علمانياً، وإزالتها ليس موقفاً ضدّ العلمانية، وأنّ المسألة تتعلّق أولا وأخيراً بطبيعة الوعي والذوق الجمالي المهيمن ومدى ارتباطه بما هو أخلاقي أو سياسي، ومدى تعبيره عن الرؤى الثقافية أيضاً في مرحلة “اجتماعية” معينة.

فالدفاع عن العلمانية لا يعني اهتمام الشخص بالفن، وقد يكون الشخص مهتماً بالفن ولا علاقة له بالدولة العلمانية.

لكنّ المتحزبين لربط السياسة بالفن والظواهر الاجتماعية أصروا على أنّ إزالة الصورة موقف سياسي وهو انتصار “للإسلاموية” ويصبح بالضرورة مهاجمة الإسلاميين موقفا سياسيا أيضاً

التيار الإسلامي والتيار العلماني اللذان تنطعا للقضية عبر أقلام المثقفين المتعطشين لقضية بعيدة عما يجري على الساحة السورية من القمع والقتل والاحتلال وجدوا ضالتهم في صورة على شجرة! هذا يدل على هشاشة الإنسان الذي يبحث عمّا يلهيه عن الألم وقد نجح الشخص الذي قام برسم الصورة باستقطاب الأقلام التي امتشقها أصحابها بدل السلاح وراحوا يطعنون بها أنفسهم ليغطي الألم الصغير الألم الأكبر..

إذن تحولت المنحوتة إلى قضية.. ارتبطت القضية بحرية التعبير عند الأطراف المتصارعة، وهذا الهامش جعل البعض يعتقد أنّه يمتلك حرية فكرية ووجد لقدمه موطئاً سيتسع ويكبر باعتقاده حيث يضيق الأفق بالرماد الذي تخلّفه طائرات الاحتلال. إنّه نوع من التّخلف يشبه تماماً ذاك الذي كان أيام أرسل نابليون رسالته إلى مشايخ الأزهر يعلمهم فيها باحتلاله لمصر وبدلاً من الاهتمام بالمضمون راحوا يعربون الكلمات ويستكشفون ما فيها من أخطاء نحوية!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه