الكلمة

“الكلمة زلزلت الظالم… الكلمة حصن الحرية… إن الكلمة مسؤولية … إن الرجل هو كلمة، شرف الله هو الكلمة” بهذه الكلمات التي سطرها الأديب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته «الحسين شهيداً»، تعرفت على معنى الكلمة، ويا له من تعريف مؤرق لمن يدرك معناه ويدرك أمانة الكلمة ويا لها من أمانة تجلب الشقاء الدنيوي على من يحملها منشداً حُسن الختام، وجائزة الله التي وعد بها حراس الكلمة في الأرض.

  المستهينون بالكلمة كُثر؛ فهم أبناء العلاقات الدنيوية الذين لا ينظرون إلا تحت أقدامهم ويبحثون عن النتائج قبل المواقف، هم المتجنبون لجهاد النفس والمستكينون لمغريات الحياة وأرباحها الوهمية، هم عبيد السلطان الجائر الذين يخافون بطش مخلوق أكثر من خوفهم من غضب الخالق، هم الذين لا يرون إلا أوهام البصر ولا يدركون حقائق البصيرة، هم الذين يملكون غرائز ولا يملكون قلوبا.

 الكلمات ليست مجرد حروف؛ بل محتوى ومعنى فتجد الواعظ وهو يردد كالببغاء حديث رسول الله -صلي الله عليه وسلم- “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، وبعدها يقبل يد السلطان الجائر وينحني أمامه ويفتي بإعدام معارضيه الذين لم يخشوا في قول الحق لومة لائم.

 الباطش والديكتاتور والفاشي لا يمثلون خطورة على كلمة الحق فحسب بل هم في معظم الأوقات يشعلون حالة التحدي والعناد لدى كل صاحب ضمير لا يحيد عن كلمة الحق، ولكن الخطورة على كلمة الحق مصدرها دائما هؤلاء الضعفاء المهزوزون والانتهازيون الذين يبررون لضعفهم وسلبيتهم بالتقية غير المبررة فيتقون قبل المواجهة ويهادنون قبل الحرب ويفسرون آيات الله وما جاء في الكتب السماوية والتاريخ البشري تفسيرات تخدم ضعفهم ومبرراتهم لعدم مساندة الحق والوقوف في وجه الظلم.

هؤلاء لا يجبنون فقط ولكنهم يسعون للاستخفاف بكل من يحمل أمانة الكلمة وتشويهه وينشرون الإحباط من خلال سؤال تقليدي: “أين نتائج وثمار جهاد من في السجون؟!”.. نتائجه يا من تحيد عن الحق تراكمات ستنتهي بلحظة انتصار وستركبها أنت وتستفيد منها آنذاك… أما موقفك أنت نتيجته الوحيدة هي عرقلة من يحافظون على شرف الله

الحلاج

فليتك تحلو والحياة مريرة ***وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر*** وبيني وبين العالمين خراب

 كلمات من القلب ناجى بها “الحلاج” ربه وأعطى بها ظهره للعالم، فتكالب عليه عبيد الدنيا وقدموه فريسة لحاكم جائر: الخليفة العباسي المقتدر بالله، واتهمه كهنة السلطان بالكفر والإلحاد، وكان الرجل قادرا على طرق أبواب النجاة، ولكنه تمسك بكلمة الحق التي تقربه من الله في وجه حاكم جائر ولم تتزعزع عقيدته حتى وهم يقطعون يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتلوه وحرقوا جثته… إنها قوة الإيمان وسلاح الكلمة في وجه الظلم والجور.

كلمات واجه بها الزعيم مصطفى كامل عام 1906 بطش المحتل البريطاني وجبروته في حادث “دنشواي” المعروف، ووقف وحيدا يحمل سلاح الكلمة ليوجه خطابا حماسيا إلى العالم يشرح فيه بشاعة الاستعمار وجرائمه حتى اضطرت الحكومة البريطانية إلى الإطاحة باللورد كرومر بكل جبروته، كلمات لم تكن نتائجها جذب تعاطف العالم فقط بل أثارت الروح الوطنية لدى المصريين وأيقظتها فكانت أول شرارة للحركة الوطنية بعد الاستكانة التي أصابت الأمة عقب هزيمة عرابي ودخول الإنجليز مصر بفعل خيانة الحكام

كلمات جعلت من الأوطان قيمة لا تهتز في مقاومة المحتل والغاصب والظالم فظلت عبر الأزمان ملجأ وحصناً لعشاق الأوطان من اليأس والإحباط والهزيمة… يقول الشريف قتاده أبوعزيز: “بلادي وإن جارت علي عزيـزة وأهلي وإن ضنّـوا علي كرام”.

محمد فريد

 الكلمة تلهب مشاعر الأمة وتضعها على طريق الثورة، كان الزعيم محمد فريد 1909 م يستنفر الروح الوطنية لدى المصريين بكلمته الحماسية فيتجمع أبناء الوطن في قلب القاهرة ليتظاهروا بصدور مكشوفة مطالبين بالدستور وبحياة كريمة بالكلمة تحصن محمد فريد من البطش وتحمل السجن والطرد من الوطن حتى مات فقيرا وهو متمسك بكلمة حق في وجه سلطان جائر.

كلمة حق في وجه سلطان جائر قالها سيد قطب وشهدي عطية ودفعوا حياتهم ثمنا لها. كلمة حق في وجه سلطان جائر قالها أحرار في وجه حاكم جائر فذبح منهم من ذبح وسجن من سجن وظلوا وراء قضبان الظلم متمسكين بكلمة الحق منتظرين وعد الله الذي وعده للمجاهدين والمتمسكين بشرف الكلمة.

ولمن يسأل عن جدوى التمسك بكلمة الحق في وجه الحاكم الظالم، راجع التاريخ وانظر لكل نتائج حركة الشعوب في مواجهة الطاغوت والجبروت والمتكبرين… انظر إلى قامات طغت وافترت وفسدت في الدنيا وأفسدت وانتهت تحت أقدام شعوب وحدتها كلمة الحق في وجه الحاكم الظالم. لم يهدد الطغيان والجبروت حامل كلمة الحق ولكن دائما ما يؤرقه بهاليل السلطان وكهنته الذين يحولون الظالم إلى ظل لله في الأرض ينحون أمامه ويطالبون الشعوب بالانحناء له بدعوى طاعة الحاكم وأولي الأمر أو التقية، فيقف شيوخ السلطان على المنابر ليكفروا كل من يثور على الظلم ويلقي بكلمة حق في وجه حاكم جائر.

 الكلمات هي مفتاح الثورات على الظلم، وكما بدأت مقالي بكلمات أرشدنا بها الشاعر الراحل عبد الرحمن الشرقاوي لأهمية كلمة الحق اختتم بكلمات له أيضا تؤكد قدسية كلمة الحق: «أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة دخول النار على كلمة … وقضاء الله هو كلمه الكلمة نور… وبعض الكلمات قبور وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري… الكلمة فرقان بين نبي وبغي».

نعم بالكلمات كان الأنبياء يهدون العالم للسلام، وأيضاً بالكلمات ينشر البغايا الفساد في الأرض، ولك أن تختار كلماتك إما كلمة الحق التي تضعك على طريق الأنبياء، أو تستكين وتصمت وتتحدث بكلمة الباطل التي تضعك في طريق البغايا… اللهم استجب لدعائنا بأن تجعلنا ممن يقولون كلمة حق في وجه حاكم ظالم، وقنا شر البغايا الذين يطوفون في فلك المخلوق ويعصون الخالق.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه