القِبلَةُ الأولى في ذكرى تحويلِ القِبلَة وظِلال كورونا

 

في النّصف من شعبان كان تحويل القِبلة من بيت المقدس والمسجد الأقصى إلى الكعبة المشرّفة في مكّة المكّرمة، وعلى هذا التّاريخ ركز عامّة المؤرّخين وكُتّاب السّير كما يقول ابن كثير في البداية والنّهاية تحت عنوان “فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر”: “قال الجمهور الأعظم: إنَّما صُرفت في النّصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة”

حال الأولى القِبلَة في ذكرى تحويلِها

وها هو النّصف من شعبان يحلّ هذا العام في ظروف استثنائيّة ألقت بظلالها على القِبلَة الأولى مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

المسجدُ الأقصى المبارك مُغلَقٌ اليوم تحت عنوان محاربة كورونا، ولئن كانت محاربة الوباء بإغلاق المساجد ممّا اتّفق على جوازه عامّة فقهاء هذا الزّمان، وهو ما يقرّه العقل والرّشد؛ غير أنّ هذا ينبغي ألّا يجعلنا ننسى أو نغفل عن أنّ المسجد الأقصى المبارك الخاضع للحِراب الصّهيونيّة منذ أكثر من خمسين سنةً يعاني من سياسة التّهويد ومخاطر الهدم ومخطّطات التّقسيم الزّماني والمكاني.

إنّ إغلاق المسجد الأقصى المبارك اليوم يمثّل فرصةً ذهبيّة لحكومة الكيان الصّهيونيّ لفرض رغباتها الإجراميّة وتنفيذ مخطّطاتِها في ظلّ غياب المرابطين والمرابطات وانشغال العالم كلّه بأخبار الوباء الجامح عن أيّة قضايا أخرى.

واجباتٌ منتَظَرَة

إنّ ذكرى تحويل القِبلَة ينبغي أن تكون مناسبةً يعيدُ فيها المسلمون جميعًا وفي مقدّمتهم الفلسطينيّون قادةً سياسيّين وعلماء ودعاة وشبابًا وناشطون شدّ الرّحال المعنويّ إلى المسجد الأقصى المبارك؛ فيعيدونه إلى واجهة الحديث والحضور، ورسم الخطط لمواجهة تداعيات أزمة كورونا على مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستشراف المستقبل ووضع آليّات قائمةٍ على المبادرة بالفعل لحماية المسجد الأقصى أو ما تبقّى منه، وعدم انتظار الإجراءات الصّهيونيّة والانحسار إلى زاوية ردّ الفعل التي لم تؤت ثمارًا حقيقيّة على مدى السّنوات الطّوال الماضية.

من المهمّ اليوم أن يكون إغلاق المسجد الأقصى المبارك ومنع الصّلوات فيه فرصةً في إشعار المسلمين في مختلف بقاع الأرض بأهميّة ومكانة المسجد وحضوره في وجدانهم الجمعيّ مجدّدًا.

إنَّ الإكثار من بثّ الصّور للمسجد الأقصى بأبوابه المغلقة وبثّ الأذان من مآذنه مع مشاهد لباحاته الخالية من المصلّين لأوّل مرّة منذ عام 1967م؛ هو من آليّات استحضار المسجد الأقصى وإحيائه في وجدان الأمة وجعله في أولويات همومها واهتماماتها.

من المطلوب اليوم من القادة السياسيّين الفلسطينيين على وجه الخصوص والسياسيين في عموم البلاد الإسلاميّة تخصيص كلماتٍ مرئيّة وبيانات خاصّة للحديث عن المسجد الأقصى المبارك وما يتعرّض له من مخاطر ومكر الكيان الصّهيوني واستغلاله لوباء كورونا لتحقيق مكائده؛ ولتكن ذكرى تحويل القبلة مناسبةً لإطلاق حملةٍ للحديث في ذلك.

وكذلك على العلماء والدّعاة من الفلسطينيين وغيرهم تقدُّم الصّفوف وجعل المسجد الأقصى جزءًا من مكوّنات خطابهم الدّعوي الخاص بزمن كورونا

فالآن تتحرّك المجامع الفقهيّة ومؤسّسات العلماء لبحث القضايا المستجدّة المتعلّقة بإغلاق المساجد والعمرة وأداء الحجّ في ظلّ وباء كورونا، فلا ينبغي أن يكون هناك فتوى أو بيان متعلّق بالمسجد الحرام أو المسجد النبوي أو بالمساجد عمومًا دون الإشارة إلى ما يعيشه صنوهما وشقيقهما المسجد الأقصى المبارك من آلام ومخاطر.

وفي المقاطع المرئيّة كذلك التي يتحدّث فيها العلماء والدّعاة عن إغلاق المساجد والحزن الذي يعيشه المصلّون لذلك؛ فإنّه ينبغي ألّا يغيب الحديث عن الحزن العظيم الذي يجب على المسلمين أن يعيشوه وهم يرون مسرى نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم يعاني من أوبئة بعضها فوق بعض لا وباء كورونا فقط؛ فهو يعاني من وباء الاحتلال الصّهيونيّ ووباء المستوطنين الذين لا يكفّون عن اقتحامه تحت حراب الاحتلال ووباء صفقة القرن ووباء تآمر بعض أبناء جلدتنا ووباء الخذلان الإسلاميّ.

أمّا الشّباب النّاشطون على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والكُتّاب والمفكّرون المنافحون عن قضايا أمّتهم فإنَّ أقلّ ما يمكنهم فعلُه هو إبرازُ قضيّة المسجد الأقصى جنبًا إلى جنب مع المسجد الحرام والمسجد النبويّ.

لقد غرقت صفحات وسائل التّواصل الاجتماعيّ بصور المسجد الحرام وصحن الطّواف وصور المسجد النبويّ خاليةً من المصلّين وكان لهذا دور كبيرٌ وأثرٌ مهمّ في تجديد استشعار المسلم بمكانة المسجدين الحرام والنبويّ في قلبه ووجدانه؛ ولكن للأسف غابت صور المسجد الأقصى المبارك وهو شقيق المسجدين وصنوهما في شدّ الرّحال كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: “لا تُشَدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، المسجدِ الحرام ومسجدي هذا والمسجدِ الأقصى”

إنَّ استحضار المسجد الأقصى مع المسجد الحرام والمسجد النبويّ عند الحديث عن المساجد في ظلّ جائحة كورونا واجبٌ شرعيّ يقتضيه الرّبط النبويّ بين المساجد الثّلاثة من جهة، وكونه يعاني من مخاطر التّهويد ومخطّطات الاحتلال الصّهيوني من جهة أخرى.

وإنّ الاهتمام بالمسجد الأقصى المبارك هو سنّة نبويّة حيث كانت تُعقَدُ المجالسُ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للتباحثُ في شأن المسجد الأقصى المبارك؛ فقد أخرج الطّبرانيّ بسند صحيحٍ عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: تذاكَرنا ونحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّها أفضل أمسجدُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ـ أي المسجد الأقصى ـ ولنعمَ المُصلّى هو، وليوشكنّ أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض ـ الشطن: الحبل ـ حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدّنيا جميعًا، أو قال: خيرٌ له من الدّنيا وما فيها”

إنَّ ذكرى تحويل القبلة مناسبةٌ لتحويل قبلة الحديث إلى المسجد الأقصى المبارك وشدّ رحال القلوب والعقول والأفكار إليه مجدّدًا وجعلِه القِبلة الأولى في الاهتمام ببيان الواجبات الشرعيّة تجاهه على مختلف شرائح الأمّة وحشد طاقاتهم ليكون الأقصى حاضرًا رغم طوفان كورونا في وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، ورغم إرادة الاحتلال الصّهيوني تغييبه عن اهتمام الأمّة وأولويّاتِها.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه