القٌبيسيّات .. كلماتٌ أخيرة لا بدّ منها (12)

 

في نهاية كلّ مطاف لا بدّ من كلمات جامعة، وللحديث عن القبيسيّات كلماتُه الختاميّة عقب التّفصيل في أحوال الجماعة من حيث نشأتها وفكرها ومنهجها ومواقفها ومواقف الآخرين منها.

لا تغفلوا عن السّياق والنّسق العام

القُبيسيّات جزء من المؤسّسة الدّينيّة الشّاميّة التّقليديّة، وعلى من يريد الحكم المنصف ألّا ينزعها من سياقها العام فهي نشأت وتطورت على خطى متقاربة مع بقيّة المدارس الدّعويّة القائمة في دمشق.

كما أنّها لم تخرج في كثيرٍ من مواقفها عن المواقف العامّة لتلكم المدارس؛ سواء في ذلكم المواقف السياسيّة أو المواقف الفكريّة العامّة.

غير أنّ ما تميّزت به هذه الجماعة هو أنّها كيانٌ نسائيّ نشأ في بيئة وظروف سياسيّة واجتماعيّة لا تقيم وزنًا كبيرًا للمرأة ولا تنظر إليها إلّا بوصفها كائنًا تابعًا للرّجل يتبعه كظلّه ويعيشُ في جلبابه.

فكان نشوء هذه الجماعة واستمرارها وامتدادها عنوان ثورة فكريّة على واقع اجتماعي وفكريّ سائد وخروج غريب عن نسق فكريّ دينيّ فلذا كانت جماعة لافتة ومثيرة للانتباه، وموضع جدل حينًا وتهويشٍ حينًا واتّهامٍ أحيانًا أخرى.

حفاظٌ على الهويّة

من المنصف أن نقول بأنّ المدرسة الدّعوية التقليديّة برغم كلّ ما يثار حولها من انتقادات في الفكر والموقف وكلّ ما فيها من سلبيّات في الأداء والممارسة؛ إلّا أنّها ساهمت في الحفاظ على الهويّة الدينيّة العامّة للمجتمع في سنوات قاسية كالحة.

والقبيسيّات نشأن في ظروف استثنائيّة وكان لهنّ دور كبيرٌ في إحياء مظهر التدين النسائيّ العام ونشره وتعزيزه.

ففي الستينيات حين نشأت القُبيسيّات استهدف حزب البعث عموم مظاهر التديّن ومن أهمّها وأبرزها الحجاب واللباس مستعينًا بالمدّ القوميّ والعلوّ الشيوعيّ وانحسار دور الإسلاميين فحارب الحجاب ودعا إلى السّفور وعزّز ربط الحجاب بالتّخلّف والانحطاط في خطابه الإعلاميّ، وكانت التّنورة القصيرة “الميني جوب” هي الموضة الرّسمية التي يعزّز النّظام البعثي انتشارها ويربطها إعلاميًّا مع الانفتاح والتحضّر.

وفي الثّمانينيات حارب نظام حافظ الأسد الحجاب ولباس المرأة حربًا لا هوادة فيها تحت ستار الحرب على الإخوان المسلمين، ولوحقت المحجّبات ونُزع الحجاب عن رؤوس النّساء في شوارع دمشق بعنف وشراسة ومنع الحجاب في المدارس الثّانويّة والإعداديّة في كلّ أنحاء سوريا.

فيحسبُ للقبيسيّات حضورهنّ في هذا الواقع الصّعب حين غاب الكثيرون وتقدُّمهن حين لاذَ المتنوّرون بالصّمت؛ فكان لهنّ الدّور الكبير في تعزيز التّمسّك بالحجاب وتقوية انتشاره في تلك البيئات وإعلاء شأنه، ممّا كان له أثرٌ كبيرٌ في الحفاظ على مظهر التديّن النسائيّ العامّ في المجتمع رغم الضّربات القاسية التي لا هوادة فيها.

وهذا لا ينفي السلبيّات والانتقادات الموجّهة لهذه الجماعة في فكرها ومواقفها، وكذلك فإنّ تلكم الانتقادات ينبغي ألّا تنسف ما قدّمته هذه الجماعة من خدمات للدّعوة والهويّة الإسلاميّة، ولكنّه الإنصاف؛ إنّ الإنصاف عزيز.

رباطٌ نفسيّ وثيق

من خلال متابعة العلاقة بين أفراد القبيسيّات من آنسات وطالبات وجماعتهنّ فإنّ الملاحظ بأنَّ العلاقة أعمق من مجرّد انتماء لجماعة فكريّة ودعويّة، بل هو الشّعور بالانتماء إلى العائلة الكبيرة.

وقد نجحت القُبيسيّات في خلق وشائج عميقة بين الطّالبات والجماعة من خلال تجسيد جوّ أسريّ بين الطالبة وجماعتها، وبين الطالبة وآنستها.

وهذه العلاقة ظاهرة بيّنة مستمرّة ممتدّة حتّى عند اللواتي أعلنّ انشقاقهنّ عن الجماعة أو خروجهنّ منها.

فعموم اللّواتي خرجن من الجماعة إنّما كان خروجهنّ لأحد أمرين:

أولًا: رفضًا لمواقفها السياسيّة من نظام الأسد والشّعور بخذلان الثّورة ومناقضة التّعاليم التي طالما تربّين عليها.

ثانيًا: ردّة فعل على سلوكيّات بعض الآنسات وتعاملهنّ القاسي أو تمييزهنّ في المعاملة.

ونادرًا ما تجد من تركت القُبيسيّات رفضًا لفكره الجماعة ومنهجها الدّعوي.

وعموم هؤلاء اللّواتي تركن الجماعة أو خرجن منها ما زلنَ يحملن في قلوبهن الكثير من الامتنان للجماعة وللآنسات، وتعبيراتهنّ تنقل شعورهنّ بالامتنان للجماعة ولا يتوقفن عن التقديم بين يدي أيّ انتقاد أن يذكّرن بفضل الجماعة عليهنّ وأنّهن رغم خروجهنّ أو مخالفتهنّ للجماعة لا يمكن أن ينكرن أو ينسين ما للجماعة عليهنّ من فضل.

ملحوظات على عموم ما كُتب عن القُبيسيّات

قبل الشّروع في الكتابة عن القٌبيسيّات جمعتُ عموم ما كُتب عنهنّ من كتب ومقالات ودراسات، فكان يزيد عن تسعمئة صفحة وقرأتُه بتأنٍّ بالغ، فوجدت أنّ الغالبيّة العظمى من هذا المكتوب يتّسم بسمات عدّة:

الأولى: غالب ما كُتبَ يناقشُ المواقف السّياسيّة للقبيسيّات من الثّورة السّوريّة، ويتحدّث عن الجماعة في مرحلة ما بعد حكم بشّار الأسد وما بعد اندلاع ثورة 2011م بتفصيل بالغ مع إجمالٍ مُخلّ عند الحديث عن الفكر والمنهج الدّعوي، مع إغفال لمراحل تطوّر الجماعة في الستينيات وما بعدها في عهد حافظ الأسد.

الثّانية: انطلقت الكتابة عند الغالبيّة العظمى ممن كتب عن القبيسيّات من تحيّزات وأحكام مسبقة يُراد إثباتُها، فمن يحمل قناعة مسبقة حول الجماعة كتب وهو يتبنّى هذه القناعة فجاءت كتابته محاولةً للتدليل على القناعة المسبقة وإثباتِها، وهذا يخالف المنهج العلميّ والبحثي القائم على التّجرّد عن القناعات المسبقة قبل البحث والتّصنيف، وهذا أول خطوات الإنصاف والعدل في القول.

الثّالثة: اللّغة الاتّهاميّة، فالكثير ممّا كتب عن القبيسيّات يتّسم بلغة اتّهاميّة كالاتهام بالماسونيّة أو العمالة للمخابرات أو أنّها جماعة من صنيعة النّظام أو الإغراق في الاتّهامات الأخلاقيّة وغير ذلك من الاتّهامات التي لا تصحّ في الإطلاق على عموم الجماعة، وإن صحّت على بعض الأفراد في أيّة جماعة من الجماعات فإنّه لا يجوز تعميمها، وتفقد هذه اللغة مصداقيتها العلميّة والبحثيّة، رغم أنّنا لا نستطيع إنكار شعبويّتها وتلقّف الجماهير لها وتأثيرها في الوعي العام.

ما مصادرك؟!

كثيرًا ما توجّه إليّ سؤال عن مصادري التي اعتمدتها في هذه السلسلة، وهذا سؤال حقّ وواجب على كلّ من يتحرّى الحقّ ويسعى للوصول إليه.

وممّا يجب تبيانُه في هذا المقام أننّي درستُ في دمشق وتنقّلت بين علمائها ودعاتِها ومعرفتي بمدارسها الدّعويّة ليست معرفة القارئ عنها بل معرفة المعايش لها عن كثب.

وبعد أن عزمت على كتابة هذه السلسلة قرأت ما كُتب عنها من أبحاث ومقالات من الاتجاهات المختلفة وتعاملت معها بمنطق التمحيص والتّثبّت والنّقد العلمي.

ولكنّ أهمّ مصادري كانت الشّهادات الحيّة من خلال تواصل مباشر مع أكثر من عشرين من الآنسات والمشرفات والطّالبات القبيسيّات ممّن خرجن من الجماعة وبعضهنّ ما زلن فيها، وقد كنت أعدّ لكلّ واحدة منهنّ مجموعة من الأسئلة وكان التّعامل مع الإجابات وفق رؤية نقديّة قائمة على التّحقّق والتّثبّت ومقاطعة الإجابات مع بعضها من جهة ومع ما هو مسطور في الأبحاث من جهة ثانية.

وقد تحرّيتُ في هذه السلسلة الإنصاف والبعد عن الانجرافات العاطفيّة سلبًا او إيجابًا في المكتوب أو الشّهادات المسموعة، ولا بدّ في الختام من التأكيد على أنّ جهدي هذا كأيّ جهدٍ بشريّ يبقى قاصرًا ومعرّضًا للزلل والنقص وقابلًا للنقد والمناقشة، والحمدلله في بدءٍ وفي ختمِ

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه