الفريق إبراهيم عبود: الرئيس الذي لم يعتقد في ألوهية شخصه

 

أبدأ بما أنا مغرم به من حوسبة التواريخ وتلقينه ، فقد كان الرئيس السوداني الفريق إبراهيم عبود (1900 ـ 1983) من حيث هو ضابط قريبا في الميلاد والتخرج والكادر والوفاة والعمر من الرئيس المصري محمد نجيب (1901 ـ 1984) فقد عاش كلاهما 83عاما ، وقد سبق الرفيق عبود الرئيس نجيب في الميلاد بأربعة شهور وسبقه في الوفاة بعام إلا قليلا ، وبينما عاش الفريق نجيب بين 19 فبراير 1901 و28 أغسطس 1984 فإن الفريق إبراهيم عبود ولد في 26 أكتوبر 1900 أي قبل محمد نجيب بأربعة شهور (وليس عاما كاملا) وتوفي في 9 سبتمبر 1983 أي قبل الرئيس نجيب بأحد عشر شهرا وعشرين يوما.
الطريف من أمر التاريخ أن هذين الرئيسين الفريقين تخرجا في العام نفسه 1918 والسبب في هذا هو أن محمد نجيب تميز بالتفوق طيلة دراسته، مما جعل أساتذته يقفزون به في مراحل الدراسة لكن ليس معنى هذا أن الفريق إبراهيم عبود كان متأخرا، وإنما كان متفوقا جدا ولكن ليس لدرجة محمد نجيب.

المولد والنشأة

ولد الفريق إبراهيم عبود في سواكن في قبيلة “الشاينية “، وأتم دراسته في التعليم المدني والتحق بكلية جوردون وتخرج فيها 1917 في شعبة الهندسة ثم تخرج في المدرسة الحربية 1918 وبهذا أصبح في وضع يوازي المهندسين العسكريين ، وأصبح بهذا ضابطا في الجيش المصري فلم يكن الجيش السوداني قد تشكل بعد، بدأ الفريق إبراهيم عبود خدمته في قسم الأشغال العسكرية فلما وقع حادث مقتل السير لي ستاك سردار الجيش المصري في السودان 1924  وسُحبت القوات المسلحة المصرية من السودان انضم إلى ما كان يسمى قوة دفاع السودان وعمل في فرقة البيادة ، وفرقة العرب الشرقية، و في أثناء الحرب العالمية الثانية خدم مع الجيش البريطاني في أرتيريا وأثيوبيا و شمال أفريقيا. وفي نهاية الأربعينيات عين قومندانا لسلاح خدمة السودان، بالموازاة مع إتمام خطوة سودنه مناصب هذا السلاح.
نال الفريق إبراهيم عبود رتبة الأميرالاي في 1951 وأصبح أركان حرب قوة الدفاع ثم عين نائبا للقائد العام في 1954 وكان هذا القائد هو أحمد محمد، الذي خلفه الفريق إبراهيم عبود ليكون ثاني قائد عام للقوات المسلحة السودانية، على نحو ما أصبح فيما بعد ثاني من تولى مهمة رياسة  السودان ، وعندما وصلت الخلافات بين الأحزاب السودانية إلى نقطة ظنوها مستعصية على العلاج رأى بعض الفرقاء أن الانقلاب العسكري يمكن أن يحل مشكلة التناحر ولو إلى حين ، وكان رئيس الوزراء عبد الله خليل نفسه من هذا الرأي حتى أنه هو الذي سلم السلطة للفريق إبراهيم عبود لا بصفته بديلا له، ولكن بصفته قائدا للانقلاب العسكري.. وهكذا كان على الفريق إبراهيم عبود أن يطبق كتالوجات الانقلابات العسكرية المتاحة في المنطقة العربية وأمريكا اللاتينية وكانت خطوات هذه الانقلابات تشمل: إيقاف العمل بالدستور، وحل البرلمان، وتقييد نشاط الأحزاب السياسية أو إلغاء هذه الأحزاب.. أو بالمصطلح المختصر إلغاء مظاهر وآليات الحياة الديموقراطية.

الانقلاب العسكري

كان زعيما الطائفتين الدينيتين اللتين تمارسان السياسة السودانية في ذلك الوقت وهما :عبد الرحمن المهدي (زعيم المهدية ) و علي الميرغني  ( زعيم الختمية) قد رأيا  أن يوافقا على خطوة الانقلاب العسكري لما كانا يريانه من قدرة الفريق إبراهيم عبود وشخصيته وامتلاكه لناصية مؤسسة قادرة على الحسم وضبط الأمور لكن الكوادر السياسية من أبناء الطائفتين وحزبيهما لم تكن من هذا الرأي على إطلاقه وهكذا فإن الصديق المهدي زعيم حزب الأمة ورئيسه قاد بنفسه المعارضة السياسة للانقلاب العسكري بادئا بهذه الخطوة الشجاعة تعبيرا حيا وحيويا عن قدرة الأحزاب السياسية على ممارسة المعارضة الحقيقية على الرغم من العقيدة التي لا يزال يروج لها الغرب بكثافة سيطرة المؤسسة الصوفية أو الدينية التي تظلل وجود هذه الأحزاب  وتبرره.
عقب الانقلاب وتولي السلطة تسمى الفريق إبراهيم عبود بلقب رئيس المجلس الأعلى من 18 نوفمبر 1958 وحتى نهاية أكتوبر 1964 ثم تسمى بلقب رئيس الجمهورية من 31 أكتوبر 1964 وحتى ترك المنصب في 16 نوفمبر 1964 وبهذا كان الفريق إبراهيم عبود أول من تسمى بلقب رئيس الجمهورية في السودان مع أنه ثاني رؤساء السودان ذلك أن الرئيس السوداني الأول إسماعيل الأزهري (1956-1958) كان يتسمى بلقب رئيس مجلس السيادة.
كان الفريق إبراهيم عبود رجلا وطنيا إلى حد كبير، وهكذا فإنه لم يلق قبول الحكومات الخفية أو العميقة في المحيط الغربي الذي كان يراه بعيدا عن التعسف والشراسة مع الشعب، وغير محبذ للاستخدام المفرط للعنف، وغير محب لموالاة الغرب موالاة مطلقة ، وكان افتقاد الفريق عبود لهذه الصفات السلطوية القاسية سببا في نفور مؤسسات الاستعمار الجديد منه من دون أن يصرحوا بهذا بوضوح ، بل إن الغرب كان قلقا مما رآه في الفريق إبراهيم عبود من ميل بعيد المدى إلى النجاح بسبب استقامته، وأبدى الأمريكان دهشتهم من أن تكون موازنة السودان في عهده منضبطة لا تعرف العجز والالتجاء إلى الديون على نحو ما كان قد بدأ يحدث مع أقرانه العسكريين في الدول المجاورة.
بل إن الفريق إبراهيم عبود أعرب بكل نبل عن أمله في أن يحل مشكلة جنوب السودان التي كان الأمريكان قد بدأوا يذكون نارها وبدأ في بذل جهود صادقة من أجل الوحدة الوطنية والتعريب، والتعليم ونشر تعاليم الدين الإسلامي وهو ما كان يتعارض بالطبع مع السياسات الأمريكية الخفية التي كنت تحرص على النقيض من خلال تنشيط بعثات التبشير وجهودها المحمومة في نشر الحرب الأهلية.
جمع الفريق إبراهيم عبود رئاسة الوزارة مع قيادة الدولة (أو رئاسة الجمهورية) ذلك طيلة فترة حكمه وحتى أكتوبر 1964 حين تصاعدت الثورة ضد نظامه فرحب بتسليم السلطة طواعية للمدنيين. وقد بقي الفريق إبراهيم عبود بعيدا عن السلطة 19 عاما حتى توفي في 1983.

النزاهة والاستقامة السياسية 

عُرف الفريق إبراهيم عبود بنزاهته الشديدة حتى أنه رفض أن يكون له بيت صغير يليق بمكانته، فلما عرضوا عليه أن يُقيم في مسكن حكومي طيلة حياته على أن يكون هذا من حق من يخلفونه في هذا المنصب رفض أيضا، وقد أورد العقيد محجوب نور تفصيلات هذه الواقعة عن السيد مبارك رزوق المحامي الذي كان وزيرا للمالية والذي كان يُفاخر دوما بأن عبود يفوق في أخلاقه غاندي ولينكولن وديجول وتشرشل وسعد زغلول. ولهذا السبب فإن السودانيين لما رأوه وهو يتسوق بعد تركه الرئاسة فهتفوا له: “ضيعناك وضعنا وراك يا عبود”، ومن الطريف الذي لا بد من ذكره أن الجنيه السوداني في عهده كان يساوي 3.3 دولار بما يعني أن العشرة دولارات أمريكية كانت تساوي ثلاثة جنيهات سودانية فقط وهو نفس سعر الصرف الذي تحدد للدينار الكويتي.
 ومن الطريف أن حكومة الفريق إبراهيم عبود قبلت المعونة الحكومية الأمريكية التي كان الحزب الاتحادي الديمقراطي يعارض في قبولها ويزايد بهذا الموقف على حكومة عبد الله خليل، كذلك فقد كان وصول الفريق إبراهيم عبود للحكم فرصة لتحسين العلاقات السودانية مع العسكريين المصريين وكانت هذه العلاقات قد تدهورت فعليا وإعلاميا بسبب الخلاف على حلايب وعلى بناء السد العالي، وفي عهده وبجهده تكمن من زيادة حصة السودان من ماء النيل مقابل قبوله بإنشاء السد العالي. وقد قبلت مصر أن توافق على أكثر مما كانت حكومة عبد الله خليل تطالب به نظرا لنفور عبد الناصر من وجود المدنيين في السلطة في بلد شقيق مجاور أو اشتراكهم في المفاوضات معه.
 وفي عهد الفريق إبراهيم عبود بدا العمل في سدين جديدين من النيل، ووصلت الأرض المزروعة من السودان إلى أكثر من مليوني فدان، وبدأ مشروع كبير سمي “المناقل” لإعداد الأراضي السودانية للزراعة.

أول من اعترف بالصين الشعبية

عُرف الفريق إبراهيم عبود كذلك بالاحترام والشجاعة والتقدير في المجتمع الدولي، حتى أنه كان من أوائل الرؤساء الذين اعترفوا بالصين الشعبية في وقت تراخى فيه اعتراف أصحاب الصوت العالي، وكان يحظى بصفة خاصة باحترام الرئيس الأمريكي كيندي وكان من حظهما أن تمت زيارة الفريق إبراهيم عبود للرئيس كيندي، وعلى غير ما هو شائع في البروتوكول فإن الرئيس الأمريكي استقبل الفريق إبراهيم عبود على سلم الطائرة عند قدومه لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك حظي الفريق عبود بتكريم مماثل من الملكة إليزابيث الثانية، ويبدو أن هذا كان رد فعل طبيعيا تجاه الروح العدائية التي انتهجها الإعلام الناصري تجاه الزعماء الغربيين.
خرج الفريق إبراهيم عبود من الحكم بسجل مشرف بل نظيف فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وكان سلوكه هذا مزعجا للزعماء العرب من حوله، لكنه لم يفرط فيه بيد أنه بطابع العسكريين لم يكن قادرا على أن يدير عملية ديموقراطية تتداول فيها السلطة.. وإذا كان السودانيون المعاصرون يكثرون من مدح الفريق سوار الذهب فإن المخضرمين منهم يكثرون أيضا عن حق من مديح الفريق إبراهيم عبود، الذي كان صاحب أول انقلاب عسكري (إنساني) في السودان، ومن العجيب أنه عاش بعد أن شهد الإهانات توجه لزعماء المهدية والختمية وتوجه للزعيمين الكبيرين الأزهري و محمد أحمد محجوب اللذين توفيا قبله وهما يعانيان الكمد والجحود والإهانة. 
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه