الفئة الغالبة في المناطق المحرّرة

النّاس في المناطق المحررة لا يرون قيمة لحقوقهم السّياسية؛ لأنّهم في الأصل لا يتمتعون بحقوقهم الاجتماعية، فكان الأَولى أن تُمنح لهم تلك الحقوق كمقدمة يخطون بعدها الخطوة التالية

 

من البديهي أن تكفل الحقوق السياسية للمواطنين حرية التعبير لهم. لكنّ الواقع يقنن الحريّة ويجعلها محصورة في الملكية الاقتصادية، فأصحاب رؤوس المال يمكنهم التّمتع بمميزات تكفل لهم حريّة التّعبير وتمنعها عن باقي الشعب سواء الفئة المتوسطة أو التي تعيش تحت خط الفقر.

لذا لا يمكن أن نعوّل على القوانين التي تضعها السلطات وتمنح بموجبها الحقوق السياسية لفئة من المواطنين يمكن تسميتها الفئة الغالبة.

ولكي تكفل تلك الحقوق لكلّ فئات الشعب لابدّ من قيام الثورات، فالحق لا يموت – كما في التعبير الشعبي – ووراءه مطالب.

لكن إن أخذنا التّجربة السّورية نموذجاً للمطالبة بحريّة التعبير والحقوق السياسية الكاملة للمواطن نجد أنفسنا أمام تجربة مليئة بكلّ أخطاء وعثرات التّجارب الأولى على الرغم من أنّ التجربة الدّيمقراطية السّورية كانت متكاملة قبل أن يسيطر حزب البعث على مقاليد السّلطة ويغيّر وجه الحكم في الدّولة.

التحولات:

سرعة التحولات الحاصلة في القضية السورية جعلت الأفراد يديرون ظهرهم للسياسة حيناً ويدعمون التيارات المتطرفة حيناً آخر، وهذا ما عجّل بظهور الفئة الغالبة المستنسخة من النموذج البعثي المتسيّد في الزمن الأسدي. أو المؤلفة من أفراد كانوا في المكان نفسه في الحقبة البعثية الأسدية.

ظاهرة الديمقراطية الخلبية في المناطق المحررة:

سعى الشباب المتحمس في المناطق المحررة لتطبيق تجربة الديمقراطية التي تمنح هؤلاء “الرعاع” – كما كانوا يسمون في الماضي، المواطنون كما يسمون الآن- حقّهم السّياسي بوضعهم في المكان الطبيعي لهم وحثهم على ممارسة ذلك الحق بانتخاب مجلس محلي للبلد وتجربة المجلس المحلي في أريحا خير مثال على انعدام الديمقراطية أو موتها.

فقد ظهرت الفئة الغالبة وهي تلك الفئة الكامنة من البشر الرماديين الذين لا يعنيهم من الحدث إلا الجانب الذي يمثل مصالحهم وهم ينجذبون إليه كمغناطيس ويتعلّقون به بكلّ قواهم ولا يساومون ولا يتنازلون عن مكاسبهم مهما حدث ويسلكون في سبيلها كلّ الطرق المتاحة والأساليب المشروعة وغير المشروعة فيطعنون في أخلاقيات الخصم وماضيه وقدراته وإن وصل الأمر إلى نقطة مسدودة يمكنهم التّخلص منه بتصفيته جسدياً.

النتائج الكارثية لتسيّد الفئة الغالبة:

بعد الانتخابات التي حافظت على الطريقة البعثية في استلام الحكم واستلام الأفراد الذين قاتلوا في سبيل الوصول إلى المنصب والسيطرة على البلد بالقوة التي يستمدونها من فصيل “الأحرار”،

قامت بلدية أريحا بفك الارتباط مع إدلب، استقلت المدينة إدارياً! ثم ظهر بيان يطالب “الصرّافين” بتقديم تقرير بأسماء مرسلي الحوالات ومنع التعامل مع إدلب!

دخل المدينة من الكهرباء وجباية النظافة وتأجير العقارات ودخل الفرن ودائرة النفوس والدائرة العقارية حوالي 22 مليون ليرة سورية بما معناه أنّ المؤسسات بعد خصم رواتب الموظفين يكون فيها فائض مالي يتراوح بين 12 و13 مليون ليرة سورية حوالي 25 ألف دولار شهريا.. لا يدخل منها قرش واحد إلى المجلس المحلي!

هذه العملية الحسابية تظهر أنّه لا يوجد ضرر مادي من فك الارتباط، لكن الأمر يتعلّق بالوثائق الشّخصية “دفتر العائلة مثلاً، مشاريع الإفراز العقاري الذي يحتاج إلى لجنة إقليمية موجودة بإدلب وليس لها فرع في أريحا. بالإضافة إلى قضية ضخ المياه وإن كانت شحيحة”. وهذا يثبت أنّ الموضوع ليست له علاقة بالمصلحة العامة.

فالقائمون على المجلس المحلي لديهم كامل الصلاحيات _من دون تدخل عسكري_ بتقرير مصير الأموال وكيفية صرفها (في المصلحة العامة). وأوّل إنجازات المجلس التي تعيدنا إلى حقبة البعث الأولى، فصل مدير الفرن وتعيين محام من جماعة “الأحرار” مكانه.

هل نستطيع أن نحمّل هذه النتائج الكارثية لعموم الناس من مواطني المدينة؟

عموم الشّعب من الفقراء والنّاس العاديين لم يكن لديهم الدّافع للمشاركة في الانتخابات الديمقراطية وظهر ذلك في فيديو بثه مدرّب المجالس المحلية ومسؤول العلاقات فيها، استطلع فيه رأي الناس حول الانتخابات وقد رفض نسبة كبيرة منهم المشاركة في الانتخابات وأحدهم هرب من أمام الكاميرا!

النّاس في المناطق المحررة لا يرون قيمة لحقوقهم السّياسية؛ لأنّهم في الأصل لا يتمتعون بحقوقهم الاجتماعية، فكان الأولى أن تُمنح لهم تلك الحقوق كمقدمة يستطيعون بعدها أن يخطوا الخطوة التّالية وهي ممارسة حقوقهم السّياسية.

إذن:

اكتملت الصّورة الدّيمقراطية الخلّبية بتسيّد الفئة البعثية الغالبة في عملية الانتخابات “الحرّة” وسيطرت تلك الفئة على رأس مال البلد لتصبح هي مرّة أخرى الفئة التي تتمتّع بالحقوق السّياسية التي تمنحها السّلطة المتموضعة في يدها ومنها حريّة التعبير!

تلك الفئة التي ركبت على أكتاف الثورة للحصول على الحقوق السّياسية التي يمكنها من خلالها تحقيق مكاسبها الشّخصية كانت منذ بداية انحيازها للثورة تسير وفق خطة مرسومة للوصول إلى ما حصلت عليه.

أما ما مكن هذه الفئة من السيطرة على مقاليد الأمور فهو غياب أجندة سورية حقيقية وانقياد الفصائل المسلحة للدول الداعمة وخضوع هذه الفصائل لإرادة الداعم، فغابت المصلحة السورية من الواجهة لتتسيد مصالح الدول الإقليمية والفاعلة المشهد الحقيقي، وسط تواطؤ واضح من المنظومة الدولية العظمى والخاضعة بدورها لإرادة أصحاب رأس المال العالمي المتوحش.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه