الغنوشي يحكم الساحة في تونس

يقول كثيرون بنغمة هازلة لكنها تخفي جدا كثيرا أن مفتاح قصر قرطاج (مقر الرئاسة) عند الغنوشي ولكن يبدو أن مفتاح القصبة (مقر الحكومة) عنده أيضا

 

قريبا جدا من الموعد الانتخابي يتحرك المشهد السياسي التونسي بسرعة ويظهر فاعلون كثر غير أن العنصر الثابت هو حزب حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي. فهو وحزبه مدار الحديث السياسي اليومي ومنتهى كل التوقعات والتحاليل المناصرة والمعادية ولا يمكن كتابة جملة سياسية في تونس دون ذكر حزب النهضة بالسلب أو بالإيجاب. رغم ذلك فإن هذه الورقة ليست في تقريض الشيخ وحزبه بل هي سؤال عسرت على إجابته لماذا لا تفلح الساحة السياسية التونسية (وهي نموذج من الساحات السياسية العربية) في تكوين أحزاب منافسة عددا وعدة للأحزاب الإسلامية؟

التيارات الأربعة.

عندما حلل المفكر المغربي محمد عابد الجابري الساحة الفكرية العربية انتهى إلى وجود أربعة تيارات أو مراجع فكرية لم تخرج الأحزاب والنخب عن أحدها وهي التيار الليبرالي والتيار اليساري والتيار القومي العربي والتيار الإسلامي. ولا يزال هذا التبويب فعالا فنحن نرى التيارات الأربعة تشتغل بعد الثورة في تونس غير أنها لا تفلح باستثناء التيار الإسلامي في التماسك والبناء الحزبي بل إن الثورة قد محصت قوتها فكشفت ضعفها. فلم يبق في المشهد التونسي إلا حزب واحد قائم وتذررت البقية شيعا.

وجب أن نذكر هنا أن التيار الليبرالي قد حكم وعرف الناس طبيعته وقيموه في لحظة حرية سياسية. لم تتح إلا بالثورة عليه. فقد كان تيارا ليبراليا في الاقتصاد ومعاديا للحريات. كما أن التيار القومي حكم وجرب في الشرق ووصل صدى حكمه إلى تونس والمغرب العربي عامة والأصداء الواصلة من الشرق لم تجعل الفكرة القومية العربية محل قبول عام وإن كانت قضية فلسطين حاضرة في وجدان الجميع دون ربطها بملكية التيار القومي العربي الذي يعتبرها قضيته المركزية. وفي تونس بالذات صدر نظام القذافي الفكرة القومية وجعلها مثيرة للسخرية.

أما اليسار التونسي (والعربي عامة) فلم يحكم بشكل صريح ولكنه عاش في ركاب السلطة ونال منافعها واستعملها كما استعملته. خاصة بعد الأزمات الاجتماعية لأول الثمانينيات حيث سكن اليسار في مفاصل الدولة بل رأينا يساريين يقودون حزب بن علي الليبرالي ويبررون له كل فعل بما في ذلك تفكيك مؤسسات القطاع العام وبيعها. من بين هذه التيارات ظل التيار الإسلامي خارج تجربة الحكم حتى الآن رغم تجربة الترويكا بعد الثورة. لذلك اعتبر أن هذا التيار لم يخضع لاختبار حقيقي يكشف قدراته الحكمية. يسمح للناس بالحكم عليه حكما موضوعيا. هل هذا سر قوة الحزب الإسلامي في تونس الآن؟ ليس هذا هو العنصر الوحيد بل هناك عناصر أخرى تجعل منه حزبا قويا.

عناصر القوة.

استعمل الحزب الإسلامي مشاعر المظلومية وجمع التعاطف السياسي معه. ولكن بعد سنوات قليلة سقطت هذه الحجة وانفض متعاطفون كثر مع حزب ضحايا نظام بن علي. وستكون انتخابات 2019 حاسمة بخصوص هذه النقطة. فالناخب التونسي لن يتعاطف مع دموع المرشح الإسلامي لقد سقط التباكي الانتخابي ودقت ساعة تقييم الكفاءة.

هنا نجد سببا كبيرا للحيرة. فالمشاركة الإسلامية في السلطة وإن كنت محدودة لم تكشف تميزا في الأفكار وفي البرامج بل انتهت أغلب التقييمات إلى أن حزب النهضة قدم أداء هزيلا لم يختلف فيه عن أي حزب عربي مارس السلطة. رغم ذلك توسع نفوذ الحزب سياسيا وهو الآن حكم الساحة فيما يتعلق بالانتخابات القادمة وربما في إدارة البلد بعدها. أين سر هذه القوة؟

تعود هذه القوة إلى التماسك السياسي والتنظيمي الداخلي للحزب. وحسن إدارة الموارد البشرية المتاحة. شهد الحزب خروج بعض الأفراد من قيادات الصف الأول والثاني وكثير من الأنصار الذين لم يعيشوا المحرقة التاريخية. لكن العمود الفقري للحزب لم يهتز. ولعبت مؤسسات الحزب مثل مجلس الشورى المركزي ومجالس الشورى الجهوية وهي مجالس منتخبة دورا مهما في إدارة حوار سياسي داخلي جعل باطن الحزب مكشوفا لقيادته المركزية ورفع درجة التوافق حول الخط السياسي العام وإن كان الناس من حول الحزب يرون بخار الصراعات الداخلية القوية والتي يذهب البعض في قراءتها إلى إنها ستعصف بالحزب في المستقبل القريب خاصة مسألة استخلاف الغنوشي في القيادة أثناء المؤتمر الحادي عشر في 2020. لكن هذه لا تزال أبخرة لم تتشكل في سحب.

إلى قوة التماسك التنظيمي أفلح الحزب في المناورة البرلمانية بكتلته المتماسكة. فبالكتلة البرلمانية (68) نائبا. أسقط الحزب خيار التوريث الذي سعى إليه الرئيس وقد يسقط حكومة الشاهد إذا تمادى الشاهد في استعمال مؤسسات الدولة لتحسين مركزه السياسي الشخصي في الانتخابات. لقد حول الحزب كتلته النيابية إلى مركز البرلمان فلا يبرم أمرا إلا بما تراه. لكن كل هذا ليس كافيا لفهم قوة الحزب في هذه اللحظة.

قوة الحزب من ضعف خصومه.

هنا نجد مفتاح قراءة المشهد السياسي وسر المكانة التي حظي بها الحزب. خصوم حزب النهضة يكشفون ضعفهم السياسي. يسارع البعض إلى مقارنته بالأعمش في بيت العميان. وهي مقارنة جائزة فالأحزاب التونسية لم تتشكل بعد لتنافس في عملية ديمقراطية بعيدة الأمد. هناك 230 رخصة حزب في تونس ولكنها على الورق فقط أما على الأرض فيوجد يسار مشتت وقوميون عرب غير قادرين حتى على تجميع مكونات التيار القومي نفسه فما بالك بتجميع تونسيين حول برنامج انتخابي. ولم نر تيارا ليبراليا حقيقيا غير فلول حزب التجمع تتنقل بين الأحزاب كما تتنقل أسراب طيور الزيتون بين الشجر. فالتجمع هو النداء وهو حزب الشاهد ومن التجمع نجد مخلصين لـ بن علي برنامجهم الوحيد هو محاربة حزب النهضة.

هذا التشتت والهوان هو الذي يجعل حزب النهضة بارزا في المشهد كحزب ثابت وله أجهزة بل أنه يدخل مرحلة رقمنة هياكله وموارده فيما خصومه يعجزون عن عقد اجتماع في فضاء مفتوح.

يلقي خصوم النهضة عليها بلوم لا يبدو جديا فهم يرون أن النهضة تخرب الأحزاب الأخرى وكثير يردد جملة بلا معنى كل من يقترب من حزب النهضة يتفكك سياسيا. وهذا لوم يهرب من حقيقة موجعة. الأحزاب التي تتفكك بنيت أصلا بعناصر غير مترابطة حول فكرة أو برنامج سياسي بل هي تجمعات انتهازية تتربص بمغنم سريع فإذا لم تنله انتشرت تبحث عن مسرب آخر للمغنم. وهذا سر السياحة البرلمانية حيث شهدنا بيع وشراء النواب كما لو أن البرلمان سوق مواشي. ولا نرى للنهضة في ذلك مسؤولية.

الفراغ حول النهضة يجعل الغنوشي حكما.

نعم يوجد فراغ كثير حول حزب النهضة. فحزب الرئيس تلاشى بسرعة قياسية لأنه حول الحزب إلى أداة توريث عائلية. أما اليسار التونسي فرابط حول فكرة واحدة منع الإسلاميين من الحكم بكل السبل. وكلما أوغل في حربه خسر في الشارع. وآخر خساراته التي لا يقيمها هي تفريغ قضية الاغتيالات من كل مضمون إنساني فقد قامر بها في وقت ضيق ولغرض انتخابي وخسر التعاطف الكبير مع الشهداء. أما القوميون فديمقراطيون في تونس شبيحة في سوريا وهذا كاف لكي لا يتقدموا انتخابيا.

هذا الفراغ يؤهل الغنوشي لدور الحكم. ويزيده قوة أن الجميع يسترضيه لمغنم. يقول الكثيرون بنغمة هازلة لكنها تخفي جدا كثيرا أن مفتاح قصر قرطاج (مقر الرئاسة) عند الغنوشي ولكن يبدو أن مفتاح القصبة (مقر الحكومة) عنده أيضا.

السؤال الآن هل هذا مفيد للتجربة الديمقراطية التونسية؟ الإجابة كما أراها أن هذا مسار مُعَوَّقٌ. فتجربة الحزب الواحد تحمل ذكرى سيئة في النفوس. فضلا عن ذلك فإن تجربة ما بعد الثورة كشفت أن الشتات السياسي حول النهضة يتفق على أمر رغم تشتته هو منع حزب النهضة من الحكم وخاصة باستعمال النقابات والإدارة.وهذا منذر بتعطل البلد جملة إذا وضعت الانتخابات حزب النهضة في وضع الحزب المسؤول عن تشكيل الحكومة. أي أن الشتات السياسي سيحكم بضعفه ولن يسمح لحزب النهضة بالحكم بقوته. وهنا لن يستطع حكم الساحة إدارة لعبة يرفض أحد طرفيها اللعب بل يتعمد ثقب الكرة. قد نكتب ذات يوم أن قوة حزب النهضة في محيط من الضعفاء قضت عليه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه