الغزو الفكري الغربي وإذابة الشعوب

 

يتعرض العالم الإسلامي اليوم لهجمة غربية شرسة، تخطت كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية لتصل إلى التطاول العلني الجريء على الدين الإسلامي ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، يقودها علنًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سبقها غزو سياسي لثورات الربيع العربي، وتدخل سافر في اتخاذ القرار المستقل في دول الثورات العربية؛ إلى حد الانقلابات العسكرية والغزو العسكري لدولتين إسلاميتين، وتهديد بالاعتداء على دول أخرى.

 وبدأنا نشاهد تدمير مدن إسلامية تحت قصف وحشي بكل أسلحة الدمار. هذا المشهد أعاد إلى الأذهان صور الحروب الصليبية، والاستعمار العسكري من جديد. ويأتي التحدي الجديد القديم في وقت تعاني فيه الأمة من الضعف والتشرذم؛ وسط نزاعات وصدامات داخلية سياسية واقتصادية ومجتمعية تزيدها ضعفًا على ضعف.

الغزو

والمتأمل في الأمر يرى أن حالة الضعف والتشرذم التي تعيشها الأمة في جزء كبير منها يعود إلى الغزو الغربي الهائل، الذي أخذ المواقع، وسيطر على القلوب!

والغزو الغربي بحركاته الاستشراقية والفكرية والعملية، أخطر ما نواجه في حياتنا، لأن ما يقوم به من أهداف تقوض الدعائم، يتعلق بأعمق أعماقنا، عقديًا، وفكريًّا، وحضاريًا، وليس أمام المسلمين سبيل إلا المواجهة، وقبول التحدي، وإثبات الذات، وإلا فلن تقوم لنا حياة ولن نكون جديرين بالحياة!

منذ الاستعمار وللآن تحرص الدول الغربية على تحسين صورتها في البلاد المستعمرة؛ بصناعة نخبٍ مرتبطة بها. وقد أدت هذه النخب الدور الموكل لها بحرفية مطلقة، خاصة تلك التي عاشت زمنًا في الغرب، وشاهدت الفجوة الهائلة بين شمال المتوسط وجنوبه، وقد أزالت جانبًا كبيرا من الصورة القاتمة التي خلفتها وقائع التاريخ. وظل الغرب مهتما بصناعة هذه النخب وتعليبها في مخابره، وتنميتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا؛ حتى بعد خروجه، ومنح ما يسمى الاستقلال لمستعمراته!

وكان الغزو الفكري هو السلاح الذي لا يخيب في ذلك؛ إذ عمل عمله لإذابة الشعوب، وانسلاخها عن عقائدها، ومذاهبها، وحضارتها، لتصبح مسخًا شائهًا تابعًا لغيره، يؤمر فيطيع..

ولقد قام هذا الغزو بدره المؤثر في تضليل المجتمعات الإنسانية، وخداعها، والتمويه عليها، وقلب الحقائق، وتشويهها، عن طريق تصنيع الكلمة، وزخرفة القول، والدخول إلى المخاطب، من نقطة الضعف، والاستغفال؛ لإغرائه، والإيقاع به، والإيحاء إليه بسلامة الفكرة، وصحة المفهوم المزيف الذي تحمله كلمات الغزو!

 ولكم تهاوت أمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هاوية الضلال والانحراف، والفساد الخلقي، والعقدي، والاجتماعي، بسبب تصورات (الغزو) المزخرفة الخداعة، التي يرقص السذج، والجهال على نغم إيقاعها، ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها.

العقد الغربية

ولم يعتمد الغرب فقط على بسط هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه؛ بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة، مع سياسة النهب الخالص، وسياسة المدفع السافرة، إنما اعتمد أيضًا على أساليب أخرى في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف، وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر، وتطويعها وتسخيرها لصالحه.

ومن العقد التي لم يسع الغرب الى التخلص منها؛ بل تتغلغل في أعماق أفراده يوم بعد يوم: تضخم الأنا الغربي، الذي يحكمهم بكل عقده التاريخية والعنصرية؛ إذ لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي، فإنه يرفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة بالثقافات المغايرة، أو بفكرة التاريخ المتعدد، ويلجأ إلى تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح وكيانات قبلية وطائفية، أو عرقية وإقليمية، ويحوّل تواريخ الشعوب إلى أصفار على هامش الحضارة، لا قيمة لها؛ إلا بقدر اندماجها في دائرة السوق المتمم لحاجات إنتاجية المركز الأوروبي.

وجعل نفسه وصياً وحيداً في تقرير مصائرهم، تحت شعار تحرير الوثنيين والكفار “الوحوش” أو “الهمج” من “الظلامية” و”العبودية”.

وراح الغرب يُساوي نفسه مع التاريخ، وأن له وحده الاستحواذ على مواقع النجاح، ولو على حساب ثقافات وتواريخ الشعوب الأخرى ومحوها.

وهنا نشأت (الأنثروبولوجيا) الغربية: فالغرب أنشأ هذا العلم لدراسة إنسان ما وراء البحار؛ بمناهج جديدة تهدف إلى عزله عن كل الظروف الاجتماعية التاريخية، ونكران ما يمثله من قيم ثقافية مغايرة. وحسب منظور (الأنثروبولوجيا) الغربية لم يعد ثمة شيء عقلاني، بالمعنى الحرفي سوى النظرية (الأنثروبولوجيا) “الإنسانية” عن ثقافة الشعوب التي اصطلح على تسميتها “بالبدائية” أو “الوحشية”، ولم يعد هناك من ثقافة سوى ثقافتهم من وجهة نظرهم هذه.

وإذا تم الاعتراف بعظمة حضارات (الآخر) فبمقدار استجابتها لمصالح وترميزات المركزية الغربية.

إلا أن بعض التيارات الفكرية ترى أن الغرب ليس كله شرًّا، وأننا كمسلمين علينا أن نستفيد من تجارب الغرب التي قادته إلى التقدم، وأن نستفيد مما حققه من إنجاز؛ بانتقاء ما نريده، وترشيده وفقًا لأسس الاسلام وتخليصه من شوائب الحضارة الغربية التي لا تتفق وديننا. وهذه الرؤية مماثلة لما قام به الغرب نفسه عندما كان يعاني من التخلف في عصور ازدهار المسلمين.

صورة الغرب

ويمكن القول إن صور الغرب في الدول الإسلامية تتراوح بين الافتتان والكراهية، وفقًا لطبيعة العلاقة الرسمية مع الدولة الاستعمارية، وتتقلب الصورة من زمن لآخر، ووفقا للتطورات السياسية والثقافية للنخب الحاكمة من الليبرالية والماركسية والإسلامية والعلمانية وغيرهم!

 وفي علاقته الافتتانية بالغرب يرى أصحاب هذا التيار أن الغرب محصلة التطور البشري، وأن الحضارة الغربية وريثة ما سبقها من الحضارات، وأن هناك تيارًا حضاريًّا واحدًا ينبغي للجميع السير في ركابه! ويرى أنصار هذا التصور أن أخطاء الغرب في نظرهم أخطاء أهل الحضارة الغالبة، وهي أقل من حسناته، ويعتقدون أن سبيل النجاة لأي دولة نامية تريد أن تتقدم عليها أن تهتدي بالغرب كما قال أحدهم: إن كتبوا من اليسار إلى اليمين كتبنا مثلهم! وهذا التيار يتصدر المشهد اليوم خاصة مع القفزة الهائلة للإعلام ووسائل الاتصال التي تقدم صورة مثالية وفاتنة للحياة الغربية.

إلا أن ظهور صور الانتهاكات في سجن أبو غريب، وركام الدمار في أفغانستان لطخ صور الغرب السابقة لتتحول إلى كراهية غير مسبوقة للحضارة الغربية. وأصبح قطاع لا بأس به الرأي العام الإسلامي مجمعًا على موقف معادٍ لأمريكا التي تقود الغرب في هذا الزمان؛ فرغم تزايد حالة العداء للغرب مع بداية الحروب الأمريكية وحلفائها ضد أكثر من دولة إسلامية فإن بث الانتهاكات غير المسبوقة في هذا السجن العراقي، وتعمد إذلال السجناء وتصويرهم، وبث هذه الفضيحة اعتبر اهانة متعمدة للعالم الإسلامي، فهذه الصور التي صدمت العالم لبشاعتها فضحت ما يسمي بالقيم الأمريكية، وكشفت زيف الشعارات حول الحرية وحقوق الإنسان التي ترفعها أمريكا عبر إعلامها. وإلى جانب ذلك التدمير الهمجي الحاقد للتراث الإسلامي في العراق، تنتهج روسيا نفس المنهج لتدمير التراث الاسلامي في سوريا لتصب حقدًا تاريخيًّا على كل ما هو موروث إسلامي لحضارة أنهكت المستشرقين كتابة وتحليلا وتحويرًا وانتقائية ومع ذلك صامدة خالدة. وما وقع في سجن أبي غريب قد غير القيم التي تتحدث عنها أمريكا فليست سوى الفحش والشذوذ والسادية، وليست إلا سلوكيات شائنة، أزعجت الضمير الإنساني كله.

ربما ينسي الناس المذابح التي جرت عبر التاريخ، وربما يقرؤونها ويمرون عليها مرور الكرام؛ لكن صور ما يحدث اليوم في العالم الغربي تجاه الأقليات المسلمة من عنصرية مقيتة، وتضييق على دينهم الإسلامي وشعائرهم وعباداتهم أعادت للذكرى بشاعة الحروب الصليبية، وقذارة النفوس السادية، وعداء الغرب للإسلام الذي لم يهدأ أبدًا منذ عصور وعصور.. وإن ما نراه اليوم وما نسمعه من تصعيد ضد المسلمين على الشاشات الفرنسية، لا يبشر بخير؛ لذلك فلا بد من بناء قوتنا الذاتية لكي نكون أندادًا لا تابعين! وعلينا ألا ننتظر أن تصعد الصين، أو أن تستعيد تركيا مجدها التليد؛ فتركيا وحدها لا تستطيع مواجهة الغرب برمته، ويجب أن يكون لنا موطئ قدم في هذا النظام العالمي الجديد؛ فالتدهور الذي نشاهده الآن سيفضي إلى كوارث أبشع مما نراه، ولن يتوقف مسلسل الصدمة والترويع عند دولة أو دولتين بل سيمتد إلى كل قلاعنا غير الحصينة!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه