الغارة المشبوهة على التعليم الديني الأزهري

هذا كتيب صغير في حجمه، كثير الفوائد العلمية، يعالج قضية خطيرة تطل برأسها كل فترة، قام بتأليفه المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة، وأحسن في اختيار العنوان حين جعله: (الغارة المشبوهة على التعليم الديني الأزهري)، وإن كان الكتيب قد كتب وصدر في سنة 2016م، إلا أن القارئ له يشعر وكأنه كتب اليوم للرد على الحملة المسعورة الآن ضد المناهج الأزهرية، مما يدل على أن الدكتور عمارة كان يرى بدايات الحملة من قبل، والاستعداد لها على أكثر من مستوى، يبدأ بالسياسي، ثم ينتهي بأداته الكبرى: الإعلام. ففي ظاهرة غير مسبوقة يتعرض الأزهر الشريف لحملة شرسة، تجاوزت تحميله – ظلما – بروز ظاهرة العنف العشوائي، التي تروع الآمنين، وتستخدم القوة لفرض الآراء، بل بلغت الحملة على الأزهر ذروتها حد الدعوة إلى إلغائه، بل بلغت الحملة أن شوهت تاريخ الأزهر ومناهجه، ودعت إلى تفكيكه.

وزادت الحملة خاصة بعد تفجير كنيستين في طنطا والإسكندرية، من تحميل الأزهر ذلك، متغافلين بخبث شديد القصور الأمني، والبغي السياسي الذي يقود مصر منذ أربعة أعوام. فالكتيب رغم كتابته منذ نحو عامين، إلا أنه يتحدث بلسان اليوم، ويواجه الغارة التي تشن الآن على الأزهر، ولذا ركز الدكتور عمارة في ردوده على عدة محاور مهمة، تقلب السحر على الساحر، وتلقف ما يأفك سحرة فرعون.

فند الدكتور عمارة في هذه الرسالة الفرية التي تلوكها هذه الألسنة على مناهج الأزهر، وأنه يعزز فكر الجماعات الرديكالية، فمر على تاريخ الأزهر ذاكرا العمالقة الذين تخرجوا منه منذ نشأته، وجمعهم بين علوم العقل والنقل، وإبداعاتهم الفكرية والفنية، في مجالات علم الدنيا والدين، وأن الحافز وراء ذلك كله هو منهج الأزهر الذي يتسم بالوسطية، ودراسة المذاهب الفقهية الأربعة، التي شهد لها تاريخ الأمة أنها كان صمام أمان ضد تطرف دارسيها، أو تعصبهم، لأن منهج الإسلام الذي يدرسه الأزهريون يدعو للحوار مع الآخر، والنقاش معه، وتقدير رأيه مهما خالفه، وفصل قليلا في دور بعض علماء الأزهر في نهضة الأمة من أمثال: حسن العطار، ورفاعة رافع الطهطاوي، والإمام محمد عبده، وعمر مكرم.

وبعد تفنيده لهذه الفرية، تناول مبحثا مهما، عن: تعامي المرجفين عن فجائع خطاب الآخرين، فهم يرون القذى في عين الأزهر، ولا يرون الخشبة في أعين الآخرين، فضلا عن أعينهم، وأن هذه الأصوات تخرس عن الحديث عن الخطاب الديني عند اليهود والمسيحيين، وما يحتويه كتابهم المقدس وتراثهم من خطاب عنصري، وتحريضي، فلو كان حديثهم منبعه الإنصاف، ودعوتهم صادقة لتجديد الخطاب الديني، ومراجعة المناهج، فكان الأولى الحديث عن الجميع.

شهادتان للتعليم الأزهري:

ثم جاء الدكتور عمارة في رسالته: (الغارة المشبوهة على التعليم الديني الأزهري) بشهادتين مهمتين عن مناهج الأزهر، وفضلها على عقليتهم الفكرية، من شخصيتين يصعب على أحد المزايدة عليهما من حيث إنصافهما في هذه القضية تحديدا، وهما من رموز التنوير السياسي والعلمي في مصر في العصر الحديث، أولهما: سعد زغلول الزعيم المعروف، وهو أزهري شافعي المذهب، وأول كتاب ألفه كان في الفقه الشافعي، فساق الدكتور عمارة شهادته، وكانت عبارة عن كلمة لسعد زغلول في الأزهر بعد خطبة الجمعة، تحدث عن فضل الأزهر عليه، وفضل منهجه في تكوين شخصيته الحرة المستقلة، وأن طريقة تدريس الأزهر منحته استقلالا في الفكر، جعلته – كما ذكر – يتحول من مالكي المذهب إلى شافعي، بمحض اختياره، بناء على قناعته بذلك.

والشهادة الأخطر كانت لرجل أبدى سخطه على الأزهر في فترة من حياته العلمية، وهو عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، يقول: (كانت حياتي في الجامعة تمتاز بالحرية التي لا حد لها، وتعرفون أني بدأت التعليم في الأزهر، ولقد كان الأزهر بيئة حرة إلى أوسع ما تستطيعون أن تتصوروا..كنا نستمتع بحرية لا حد لها اثني عشر عاما كاملة.. وكنا أحرارا مع أساتذتنا فيما نتحدث فيه إليهم.. ولقد أنفقت في الأزهر حرا، أرضي الأساتذة حينا، وأغضبهم حينا آخر.. ثم اتصلت بالجامعة القديمة، التي أنشئت على نظام حر يشبه في كثير جدا من الوجوه نظام الأزهر.. وأذكر أننا كنا نتناقش في الجامعة القديمة كما كنا نتناقش في الازهر، ثم أُرسلت إلى فرنسا، واستمعت إلى أساتذتي في السوربون، وكان دهشي عظيما عندما رأيت أنها ليست أقل حرية من الأزهر، بل كان دهشي شديدا عندما رأيت أن من الدراسات دراسات تشبه دراسة الأزهر، فهناك دراسة نصوص، وتفسير ألفاظ، ومعان ووقوف عند الألفاظ، وأن هذا اللفظ تقدم وكان ينبغي أن يتأخر، وهذا تأخر وكان ينبغي أن يتقدم. وكذلك كانت دراستي في السوربون حرة من جميع الوجوه فليس من الغريب أن أعود إلى القاهرة وقد اقتنعت نفسي وامتلأت بأن دراسة العلم لا تصلح وتثمر وتنتج إلا إذا كانت حرة على هذا النحو أو الأنحاء التي رأيتم في أقدم الجامعات، في الأزهر وفي أحدثها، في الجامعة المصرية، وفي أخرى تتوسط بينهما).

وكنت أتمنى على أستاذنا الدكتور محمد عمارة، أن يضيف لهاتين الشهادتين، شهادات أخرى أهم، وهي لغربيين درسوا في الأزهر.

الهدف من الغارة على التعليم الأزهري:

ثم ختم المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة رسالته، ببيان مقاصد هذه الغارة على التعليم الأزهري، والتي أشار إلى أنها حملة: ممنهجة، ومنظمة، وموجهة وممولة، يريد أصحابها من ورائها:

1ـ حرمان الأمة من المصدر الذي تلتمس عنده مصادر الدين الذي تتدين به: القرآن وعلومه، والعقيدة وعلومها، والشريعة وعلومها.. والعربية وآدابها.

2ـ وعلمنة المجتمع واستنساخ الأتاتوركية من جديد.

3ـ وإحلال الحداثة الغربية في الفراغ الذي ينشأ عن إلغاء التعليم الديني، ليتم إلحاقنا بالمركزية الحضارية الغربية في الحكم والإدارة والتشريع.. فتحل التبعية محل الاستقلال.

وفي سبيل ذلك، يتم التشويه لصورة التعليم الديني الأزهري، بإبراز بعض العبارات التي تجاوزها العصر، والتي أنشأتها ملابسات طويت صفحاتها من الوجود.

ذلك أن الفساق لا تتلصص عيونهم إلا على العورات! والذباب لا يجتمع إلا على النفايات!.

لكن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتخلف تقول: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) الرعد: 17.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه