العُهْدة العُمَريَّة وأحكام غير المسلمين.. نظرة في صحة السند

 

من أكبر أخطاء من يبنون تصوراتهم الفقهية في أحكام غير المسلمين، أنهم يعتمدون على ما سمي بـ (العهدة العمرية)، والتي كانت معاهدة أو وثيقة بين عمر بن الخطاب، وجماعة من أهل الكتاب، والعجيب أن إماما كبيرا، ومحققا من عمالقة التحقيق في تراثنا الإسلامي كالإمام ابن القيم يضع العهدة العمرية متنا، ويشبعها شرحا، في صفحات طوال من كتابه (أحكام أهل الذمة) دون أن يكلف نفسه عناء التنقيب والبحث في سندها، ونقد متنها نقدا علميا كعادة ابن القيم، ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها.

روايات العهدة العمرية:

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد قال: حدثني عمي أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، على أنا شرطنا لك على أنفسنا: ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديرا، ولا قلاية، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين.

وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم غشا للمسلمين وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا ترفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وألا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثا قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا.

ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين. وألا نمنع أحدا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام. وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن.
ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.

فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.

فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط. [1]

قال: الخلال في كتاب أحكام أهل الملل أخبرنا عبد الله بن أحمد فذكره.

رواية أخرى للعهدة العمرية:

وذكر سفيان الثوري عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ولا يؤوا جاسوسا ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه. وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس. ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يبيعوا الخمور وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ولا يخرجوا شعانين ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين. فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. [2]

رواية ثالثة للعهدة العمرية:

وقال الربيع بن ثعلب: حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري والوليد بن نوح والسري بن مصرف يذكرون عن طلحة ابن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب” فذكر نحوه. [3]

والعجيب قول ابن القيم إثر الروايات الثلاث لعهدة عمر: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها. [4]

فذكر أبو القاسم الطبري من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي عن صالح المرادي عن عبد خير قال: رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين فناوله رجل منهم كتابا فلما رآه دمعت عينه ثم رفع رأسه إليهم قال: يا أهل نجران هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه قال: ودنوت منه فقلت إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه فقال: لست براد على عمر شيئا صنعه إن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم ولم يجر عمر ما أخذ منكم إلى نفسه إنما جره لجماعة المسلمين.

إن عمر رضى الله عنه كان أشد عدلا من هذا المذكور فإنه قد أعطى لأهل القدس الأمان لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم…إلخ. وكثير من الفقهاء يبحثون لهم تجديد كنائسهم.

وذكر ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قال: لأهل نجران إن عمر كان رشيد الأمر ولن أغير شيئا صنعه عمر! وقال الشعبي: قال على حين قدم الكوفة: ما جئت لأحل عقدة شدها عمر! [5]

نقاش لسند ومتن العهدة العمرية:

بيد أن ابن القيم ـ في تعويله على شهرة هذه الشروط للحكم بصحتها وبما يشبه تواترها ـ خرج بلا شعور منه على منهجه، وتعجل في إطلاق أحكامه على غير عادته، وساعدت عباراته المتحمسة التي كانت طابع عصره، ولون بيئته، فإن يكن حال حسن نيته دون التهجم على الذميين، فلم يحل صدق ورعه، دون قبول روايات الشروط، مهما تمتلئ بالتناقض الصريح!! [6]

الشيخ الألباني ونقده لسند العهدة:

وقد ناقش الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله سند العهدة العمرية، فقال: وإسناده ضعيف جدا، من أجل يحيى بن عقبة، فقد قال ابن معين: ليس بشئ. وفي رواية: كذاب، خبيث، عدو الله. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: يفتعل الحديث.

ثم روى البيهقي عن أسلم قال: “كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد أن اختموا رقاب أهل الجزية في أعناقهم”. قلت (الألباني): وإسناده صحيح.

وأخرج (9/201) عن حرام بن معاوية قال: “كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن أدبوا الخيل، ولا يرفعن بين ظهرانيكم الصليب، ولا يجاورنكم الخنازير”. قلت (الألباني): ورجاله ثقات غير حرام بن معاوية ذكره ابن حبان في “الثقات” (1/21) وأورده ابن أبي حاتم (1/2/282) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.

أما خبر أن عمر: “أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض” فقد رواه الخلال، ولم أقف على سنده. وقد تقدم بعضه قبل حديث بمعناه دون قوله: “وأن يركبوا الأكف بالعرض”. وقد أخرجه أبو عبيد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن أسلم: “أن عمر أمر أهل الذمة أن تجز نواصيهم، وأن يركبوا على الأكف، وأن يركبوا عرضا، وأن لا يركبوا كما يركب المسلمون، وأن يوثقوا المناطق. قال أبو عبيد: يعني الزنانير”. قلت (الألباني): وعبد الله ابن عمر، وهو العمري المكبر وهو سيء الحفظ.

وأخرج عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس قال: قال عمر: “يابرقأ أكتب إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب: أن تجز نواصيهم، وأن يربطوا الكستيجان (خيط غليظ يشده الذمي فوق ثيابه) في أوسطهم، ليعرف زيهم من زي أهل الإسلام”. قال الألباني: وهذا سند ضعيف: خليفة بن قيس هو مولى خالد بن عرفطة قال ابن أبي حاتم (1/2/376) عن أبيه: “ليس بالمعروف” وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي ضعيف جدا. [7]

فالعهدة العمرية التي بنى عليها كثير من الباحثين أحكام غير المسلمين، فيما توافق عليه الكتاب باسم: (أحكام أهل الذمة) هي روايات لا تصح من حيث السند، أما نقاش متن العهدة العمرية، وما تنطوي عليه من تضارب وتعارض شديد، لا يتفق مع نصوص وردت في القرآن والسنة، فهو ما نفصله في مقالنا القادم إن شاء الله.

 


[1] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/657-661).

[2] المصدر السابق (2/662،661).

[3] انظر: المصدر السابق (2/663،662).

[4] انظر: المصدر السابق (2/664،663).

[5] انظر: المصدر السابق (2/664).

[6] انظر: مقدمة تحقيق كتاب (أحكام أهل الذمة) للدكتور صبحي الصالح رحمه الله.

[7] انظر: إرواء الغليل للشيخ الألباني (5/103ـ106) بتصرف.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه