“العنابي” الذي وحدنا

تساءلت بينما كنت أتابع مباراة كرة القدم بين المنتخب القطري والياباني عن اسم ” العنابي ” الذي يردده المعلق كثيرا في ثنايا كلماته بينما يقوم بتشجيع وحفز الفريق القطري مع كل هدف يحرزه أو هجمة يقوم بها ، والحقيقة أني حسبته مدرب الفريق، أو حارس المرمي ، أحد المهاجمين الذين أحرزوا هدفا ، وبعد المباراة انهالت التهاني باسم العنابي ، وتابعت لأعرف من هو هذا الشخص الذي استطاع أن ينتقل بالفريق القطري ليحرز تلك البطولة الكبيرة في وقت تخضع فيه البلاد لحصار رباعي غاشم من دول عربية مجاورة ، ليس هذا فقط ، بل تجري المباريات على أرض ليست محايدة ، بل على أرض دولة تتزعم الحصار الجائر ، وبدون جماهير قطرية تحفز فريقها علي اللعب فضلا عن الكسب، بل انتظرت أن يخرج هذا العنابي بتصريح تتناقله وسائل الإعلام لأفاجأ في النهاية بأن العنابي ” رمز ” وليس شخص بعينه.
 رمز لعلم الدولة التي تحدت الحصار وصنعت المعجزة في مباراة فعلت ما لم تفعله السياسة والبطولات الواهية التي تصنعها نخب منفصلة تمام الانفصال عن شعوبها في توحيد الأمة العربية والإسلامية حول الفريق تشجعه وتحتفي به، وتحتفل بالنتيجة وكأنها في ساحة حرب لم تنتصر فيها لقطر المحاصرة فقط، وإنما لتعلن عداءها لمحور الشر بالمنطقة، محور الغدر وكراهية الدين ومحاربي الثورات، لقد كانت المباراة بمثابة استفتاء على شعبية هؤلاء بين الشعوب في المنطقة. 

الحروب الناعمة والاستبداد المتجذر

يشهد العالم العربي بداية من هبوب رياح الربيع العربي حالة من الغليان وعدم الاستقرار والصراع الدائر بين الشعوب وحكامها ، فلا الأنظمة الجائرة قادرة علي التحكم بمقاليد الأمور  بشكل مستقر في ظل ذلك الغليان والغضب الذي يسري وينتشر نتيجة تعمق حالة الوعي المتزايدة كل يوم لأسباب كثيرة لم تفعل جميعها أو تستخدم بشكل كلي ، ولا الشعوب التي تكتشف كل يوم حجم الوهم الذي كانت تعيشه إثر الوعي الناتج عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتحايل للوصول للمعلومة رغما عن أنف الأنظمة ، فصدمت الشعوب بحجم الخيانة والعمالة والفساد الذي تغرق فيه أنظمتها الحاكمة 
وتوقفت الأحداث عند نقطتين لا تكاد الصورة تتحرك عنهما 
 النقطة الأولي: الفساد الذي يتراكم كل يوم، والبطش الذي يتزايد بصورة غير مسبوقة، والعمالة المعلنة والتي تتغني بها معظم وسائل الإعلام العربية بمحاولة تغيير عقيدة جيوشها وشعوبها تجاه القضايا الأساسية في المنطقة 
والنقطة الثانية : هي صمود الفئة المضارة من الاستبداد والقمع ( وهي أغلبية الشعوب ) وثباتها علي موقفها بشكل ( سلبي ) ، فتقف في دائرة تلقي الضربات دون محاولة صدها ، فضلا عن منعها من البداية ، والنموذج الذي بين أيدينا الآن ما حدث في مباراة كرة قدم ، بعد أن استطاع فريق كرة قدم لدولة محاصرة ، أن يفعل ما لم يفعله الساسة الأفذاذ ، بدخولهم أرض ممنوعة عليهم ، وحصولهم على تأشيرة رغم أنف حكامها ، والفوز عليهم ليرفع العلم القطري  في سماء إحدى دول الحصار، إنها القوة الناعمة التي تفرضها الشعوب على العالم فيضطر الجميع لسماعها بمن فيهم العدو المناوئ 
وبما أننا لا نستطيع لمجرد الرغبة إجبار الأنظمة على الانتقال من مربع الاستبداد والظلم للرحيل أو تعديل سياساتها تجاه شعوبها، فالأمنيات وحدها ببساطة لا تحرر شعوبا ولا تبني أوطانا، فقد استوجب على الشعوب العربية الانتقال من مربع السكون تحت مسمى الثبات والصمود إلى مربع الفعل والحراك العملي الايجابي؟

وسائل ثورية ناعمة قهرت أنظمة عسكرية 

ليست بدعة في التغيير أن تنجح شعوب في قهر أنظمتها العسكرية وإجبارها على التنحي بفضحها على العالم بشكل سلمي ، حتى لو نالت تلك الأنظمة رضا سياسيا على المستوي الخارجي ، وقد ظهر جليا كيف أن مباراة يمكن أن تجمع الشعوب العربية مكتملة علي رأي واحد ، إن لم يكن حبا في دولة محاصرة ، فهو كراهية ورفضا لأنظمة فاسدة ، أفلا يوحي ما حدث للمتصدين لقضية التغيير في بلادنا بخلق فكرة تجمع حولها الشعوب لتساعدها علي الخلاص غير فكرة العنف التي أجهزت على مئات الآلاف من الشعب السوري ، أو السلمية السلبية التي تقتل الشعب المصري بصمت دون ثمن ، أو التناحر الداخلي الذي يكاد يقضي على العراق ، أو القتل العمد بالتآمر العربي على أطفال وشعب اليمن ؟ أتعجز الشعوب أن تجد فكرة ناعمة تجتمع عليها فتدفع بأنظمتها الدموية الواهية إلى الجحيم؟ 
نعم تستطيع، وقد فعلتها شعوب من قبل، بل قام بها نساء الأرجنتين، الأمهات اللاتي اختفى أبناؤهن اختفاء قسريا بفعل الجنرال العسكري ” خورخي بيديلا ” الذي اعتلي السلطة بانقلاب عسكري في العام 1976، ووفقا لأمانة حقوق الإنسان بالأرجنتين فقد وصل عدد المختفين قسريا لأكثر من خمسة عشر ألفا ثلثهم من النساء، بينما في إحصاءات لمنظمات أهلية وصل عددهم لثلاثين ألفا من المختفين أو المختطفين، قاموا باغتصاب الفتيات في السجون ومن ثم قتلهم ودفنهم سرا دون السماح لأهاليهن برؤية جثاميهن
 واعتمد النظام سياسة التخويف بالاعتقال والمطاردة والتصفية الوحشية للمعارضين، وتدهورت الحياة الاقتصادية للمواطن، ودخلت البلاد في أتون الفقر والجهل كنتيجة طبيعية للحكم العسكري في كل بقاع الأرض 
في مونديال 1978خرجت النساء اللائي اختفى أبناؤهن قسريا بلافتات مطبوع عليها صور الشباب المختفين ويميزن أنفسهن بمنديل أبيض ليسرن في حلقات دائرية يواجهن بها وسائل الإعلام العالمية والتي تتابع المونديال المقام على الأراضي الأرجنتينية فيضعن بذرة الحراك الكبير بصمت ايجابي مبهر، ليلفتوا نظر العالم لجرائم يتغاضى عنها، وفي نفس الوقت لم يستطع النظام إيقافهن للظرف الذي تمر به البلاد، وفي نهاية المطاف استطعن إجبار آخر ديكتاتور عسكري بالرحيل لتتم انتخابات حرة تأتي برئيس منتخب
 لقد تحررت الأرجنتين من حكم استبدادي عسكري شمولي باستثمار النساء لحدث كروي، وهناك العشرات من الوسائل التي يمكن توظيفها لجمع الشعوب على فكرة كما تجتمع على لعبة، بعد هذا الاستفتاء الكبير على رفضها للظلم وتعاطفها مع مظلوميات بعضها البعض 
نعم تستطيع الشعوب العربية أن تقهر أنظمة تتلاعب بها فلا تجعل هناك مقدسا أو ثابتا، تعدل الدساتير لتبقى لمدد غير محدودة جاثمة على صدورها، وتحرك الجيوش لتسكت شعوبها، وتتلاعب بمستقبل أبنائها ببيع الأرض والمقدرات دون وضع اعتبار لتاريخ أو جغرافيا، فمن يبدأ، ومن يبادر بإشعال الفتيل الجاهز للعصف بالاستبداد؟!
شكراً لـ “العنابي” الذي وحدنا وذكرنا بدرس الأرجنتين.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه