العلامة الشعراوي ظريفًا

 

     لكوني أعرف قيمته جيدًا فإنني أتباهى بأني حاورت العلامة الشيخ الشعراوي في بضع حلقات تلفزيونية، في جلسة طويلة سنة 1990 في الإسكندرية، وكنت قبلها قد رأيته وكلمته سنة 1977 وأنا طالب في الجامعة، حين جاء للمشاركة في المؤتمر العالمي الأول للدعوة والدعاة بالمدينة المنورة على ساكنيها الصلاة والسلام.

      ولكن فخري الأكبر أنه (بلديّاتي، أو ابن حِتتّي) كما يقولون – ولو بالعافية – فبلدنا المحروسة زفتى تنام في حضن النيل، وقريته (دقادوس) أمامنا مباشرة على الضفة الأخرى، يعني غطسة في المَيّة، أو خطوتين على الكوبري أكون في دقادوس، حيث ولد، وحيث شب، وحيث دفن.

التفرد

     ولقد قلت في مقال سابق إن الشعراوي رحمه الله ينفرد عن غيره من العلماء الذين قابلتهم أجمعين بمزايا لم يتصف به غيره من كبار علماء الأمة على الإطلاق!

فمما يتفرد به عن سائر البشر – منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم – أنه الوحيد الذي فسر القرآن – من أوله لآخره – تفسيرًا شفويًّا محفوظًا متداولًا، وهذه خصيصة لم يؤتها أحد قبله فيما أعلم، ولم يفعلها بعده حتى تاريخي هذا أحد غير الشيخ العلامة الأصولي ابن عثيمين عليه رحمات الله ورضوانه، الذي جمع تفسيره الشفوي بعض الشباب المصريين العفاريت، وبثوه في إذاعة القرآن الكريم في قطر!

 كما أنه – أي الشعراوي رحمه الله – جرّد تفسيره هذا من انتمائه الشخصي بشكل مطلق، وقد تسألني ما معنى هذا؟

فأقول يا طويل العمر: إنني لاحظت أن كل شيخ يفسر أو يفتي، أو يلقي درسًا في مسجد، أو محاضرة في مكان ما، لا يخفي عصبيته لتيارٍ بعينه، يتولاه، ويروِّج له؛ إلا الشعراوي الذي عرف بأنه غواص في عمق بحار التصوف – على طريقته الخاصة – ومع هذا فإن تفسيره تجرد من كل إشارة تدعم هذا الاتجاه، أو تروج له. وهذا من أعجب ما رأيت وتتبعت!

      وقد بقي بعد اشتهاره وغناه رجلًا شديد البساطة، شديد التواضع، كأنه ما خرج من دقادوس قط، هذا فوق رقته وزهده؛ حتى إنني حين سجلت معه لتلفزيون قطر، وأردت أن أسلمه مكافأة التسجيل، فكاد يضربني، وغضب غضبًا شديدًا بسبب ذلك.

     لكن من الجوانب التي تخفى على كثيرين، ظرف الشيخ، ونُكته التي تخرج عفوية، دون افتعال ولا ثِقل دم، بل تأتي – على السجية – رائقة ظريفة! 

وإليك بعضًا من طرائفه التي شوفهت ببعضها، وقرأت بعضها، وعثرت على بعضها أونلاين، والعهدة على رواتها:

أبويا السبب:

     يقول الشعراوي: “كنت في سن الشباب، وجئنا إلى القاهرة، بصحبة صديق له يعلم دائمًا المكان الذي يوجد فيه شوقي أمير الشعراء، الذي كنت معجبًا به وبشعره أيما إعجاب، فاصطحبني – ومعي أصدقاء – إليه في عش البلبل عند الهرم، وقال لأمير الشعراء: هؤلاء شبان من أشد المعجبين بك، ويحفظون شعرك كله، ويأملون فقط في رؤيتك!

فسألني شوقي: ما الذي تحفظه عني؟ فعددت له قصائد عديدة!

فسألني: وما الذي دفعك إلى هذا؟

فقلت له: إن والدي كان يمنحني ريالًا عن كل قصيدة أحفظها لك!

والطرافة هنا أنه لم يقل له: لأني معجب بشعرك، أو لأنك أمير الشعراء، بل لأن أباه كان يعطيه (بريزتين) عن كل قصيدة! وكأني أراه والابتسامة عريضة على وجهه، ووجه شوقي رحمهما الله.

 الجواز قلة قيمة:

ويروي لنا الشيخ الشعراوي حكاية له مع مدير المعهد الأزهري فيقول: ذات مرة تأخر

 القطار، فوصلت إلى المعهد بالزقازيق متأخرًا، ورأيت شيخ المعهد جالسًا كعادته على بابه، فحاولت الإفلات منه، لكنه كان قد لمحني، فقال لأحد السعاة: هات الواد ده هنا. وسألني: اتأخرت ليه؟ فقلت له إن القطار تأخر نصف ساعة، وليس أنا. فسألني: ولماذا لا تحتاط، وتأتي مساء الجمعة، بدلًا من فجر السبت؟ فقلت له: أنا متزوج يا سيدي، فسألني: والجواز كويس واللا وِحِش؟ فخشيتُ أن أقول كويس، فيعتبرني قليل الأدب، فقلت له: والله الجواز قلة قيمة. فقال لي: ادخل، وإياك تتأخر تاني. وانتهى الموقف عند هذا الحد.

ولكن عندما رآني صباح اليوم التالي، وجدته يناديني: يا ولد، قلة قيمة، قلة قيمة.

وسأله المشايخ الذين يدرّسون لي: إيه حكاية قلة القيمة دي؟ فقال: أنا سألت الشعراوي عن الزواج امبارح، فقال دا قلة قيمة! وهذه المسألة جعلت المشايخ يعتقدون أني قريب شيخ المعهد، وأنه يتبادل حديثًا شخصيًّا معي.

بس يكون راجل:

      ومما يروون عنه رحمه الله تعالى من الطرائف، أنه سئل ذات يوم عن الشروط التي يلزم أن تتوفر في الرجل ليتزوج بامرأة ثانية، فقال على الفور: (إنه يكون راجل، ويقدر يعملها)! وبقدر ما في هذه العبارة عفوية، فهي دقيقة جامعة!

    امرأتان في ليلة واحدة:

     وحُكي لي – والعهدة على الراوي – أن الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام السعودي الأسبق جاء مرة يمازحه، وقال له: فلانة وفلانة – من الفنانات التائبات – تعرضان على فضيلتكم الزواج، وتلحان في ذلك، فقال: يا مرحبًا!

فقال الدكتور يماني: لكن لهما شرطًا صعبًا! فرد الشعراوي: ما هو؟

قال: أن تدخل بهما معًا في ليلة واحدة!

فقال الشيخ مبتسمًا: وليه لأ؟ قل لهما أنا موافق؛ فليس عندي ما تختلفان عليه!

رأسًا لا رقصًا:

      وأثناء وجوده في فندق الحرم بالمدينة المنورة في الحج، ووسط شدة الزحام نادته فنانة

 من المعتزلات من بعيد – وقد أراد الله لها التوبة في آخر سنوات حياتها – بشيء من اللهفة، فلم يسمعها بسبب الزحام والمسافة، فما كان منها إلا أن شقت نحوه الصفوف بكل قوتها، واتجهت نحوه، حتى اقتربت منه نادت بصوت مرتفع:

انصب طولك يا سيدنا الشيخ، وبص في وشي، وهاتعرفني!

فقال لها: مش واخد بالي!

فقالت له: أنا الفنانة الراقصة السابقة، أريد أن أسلم عليك، وتدعو لي.

فقال لها: لو عرفت أنك أنت التي تنادين عليّ كل هذه النداءات لاتجهت إليكِ “رأسًا” لا “رقصا”! فضحك الحاضرون، وأخذ يطيّب خاطرها، ويدعو لها من قلبه، وهي تبكي من الفرح والخشية.

بأحسن منها:

      وحكى أخٌ كتب عن ظرفاء قبيلة الحكمان في السعودية، أن الشيخ رحمه الله كان يجلس على منبره الوعظي أمام مريديه، فأقبلت نحوه امرأة متبرجة تبين له أنها ممثلة، وكانت – بحكم عملها – معتادة على أن يكون السلام عمليًّا لا نظريًّا، فلما اقتربت من الشيخ قالت: تسمح لي أبوس فضيلتك يا مولانا؟ 

فذهل الشيخ، وقال: ليه؟

قالت عشان باحبك! فرد الشيخ ضاحكًا:

لا، لا يمكن؛ لأن الإسلام يأمرنا أن نرد التحية بمثلها، أو بأحسن منها، ودا ما ينفعش!

     وبقدر ما جعلت شهرة العلامة اللغوي المفسر الشعراوي، ومواقفه الاجتماعية، وحسن سيرته، بقدر ما جعلت منه شخصية شعبية قريبة من قلوب عموم الناس، فقد جعلته قريبًا من أهل السلطة والنفوذ في مصر، ورشحته للوزارة، وخلقت مواقف طريفة بينه وبين الساسة خصوصًا الرئيس السادات رحمه الله، وبعض الوزراء الذين ارتبط بهم بشكل ما.

 دستور إن شاء الله!

      ومن طريف ما حصل له مع الرئيس السادات رحمهما الله، أنه أثناء حلفه اليمين الدستورية، عند اختياره وزيرًا للأوقاف، وقف يقسم على المحافظة على النظام، والدستور، والقانون، وأن يرعي مصالح الوطن، وسلامة أراضيه،. إلخ، فذكر الصيغة كلها، ثم قال في آخر القسم بصوت مرتفع؛ كأنما يحتاط لنفس: إن شاء الله، وأغرق السادات في الضحك، وحذفوا إن شاء الله في الإذاعة والتليفزيون، عند قراءة نشرات الأخبار!

يا فكيك:

     وبعد تعيين الشيخ رحمه الله وزيرًا للأوقاف، سأله الرئيس السادات ذات مرة: هل صحيح يا شيخ شعراوي أنك لا تجلس على مكتبك في الوزارة، وتركت الكرسي الفخم، وجلست على (كرسي خَرزان) جنب الباب؟

فقال له: نعم يا ريس، صحيح! فسأله: طيب ليه؟ فقال الشعراوي: عشان أكون قُريِّب من الباب، ولما ترفدني أجري سريعًا، وأقول يا فكيك، وأحمد الله، وأنفد بجلدي، وضحك السادات طويلًا.

   اتعدل انت يا ريِّس:

    وذات مرة أقام السادات حفلًا ساهرًا علي شرف شاوشيسكو رئيس رومانيا وسفاحها وديكتاتورها الراحل، الذي (كشحه الله) ثم رمي في مزبلة التاريخ ككل ديكتاتور متفرعن، وبدهي أن يحضر أعضاء مجلس الوزراء جميعًا الحفل بحسب البروتوكول، وكان في الحفل غناء ورقص وسلطنة، فأعطى الشيخ رحمه الله ظهره للمغنية – رفضًا للأمر كله، واحتجاجًا صامتًا منه على معصية الله – ومنطقي أن يكون منظره هذا، في مثل هذه الحفلة الرسمية (الراقصة) نشازًا غير مألوف!

ولما رآه السادات على هذا الوضع قال لوزير داخليته ممدوح سالم: خلي الشعراوي يتعدل! فرد الشعراوي قائلًا: أنا برضه اللي اتعدل؟ وانصرف.

     والعجيب أن يوظف الرقص الشرقي في خدمة السياسة، في مناسبات رئاسية كثيرة، من باب الترفيه عن الضيف الكبير، وقد استخدمته السلطة مع فورد وكارتر وكيسنجر وشاوشيسكو وغيرهم! ويا لروعة دبلوماسيتنا وما أتقاها وأنقاها!

اجبر بخاطري يا ريس:

      وفي اليوم الأول لتوليه الوزارة عرف بقصة (عبد المنعم المغربي) رئيس هيئة الأوقاف، والظلم الذي وقع عليه من جهاز الرقابة الإدارية بإيقافه عن العمل، وتأكد أن الرجل مظلوم، فأصدر قرارًا بعودته إلى العمل، لكن أجهزة الرقابة رفعت قرارًا لتوقيعه من الرئيس لإقصائه عن عمله؛ نتيجة شكاوى كيدية قدمت ضده، فكتب الشعراوي للسادات رحمهما الله: استشفع بي عبد المنعم المغربي رئيس هيئة الأوقاف. وقد أعلمته أن سيادة الرئيس لم يرفعني إلى مرتبة المستشفعين، ولكني أطمع أن يجبر خاطري معكم أن تقبل هذه الشفاعة، وإنها الأولى والأخيرة!

وقرأ السادات الرسالة، فكتب بالقلم الأحمر: وأنا لا أرد شفاعة الشيخ الشعراوي!

فليعنك الله:

      ومن أشهر ما انتشر في الآونة الأخيرة على مواقع الإنترنت حديثه مع الرئيس مبارك، وقوله له: لعل هذا آخر لقائي بك، فإذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعنك الله على أن تتحمل.

وللشيخ الشعراوي ذكريات مع الشعراء والأدباء، شهدت معارك أدبية ساخنة، وكان للشيخ فيها مواقف لا تنسى.

حكايته مع عبد الحميد الديب:

يقول الشيخ: حدث أيام الجماعة الأدبية التي كنت أرأسها حوالي عام 1928، والتي كانت تضم معي أصدقاء العمر: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، والمرحوم محمد فهمي عبد اللطيف، وكامل أبو العينين، وعبد الرحمن عثمان رحمهم الله أجمعين، حدث أن كانوا على صلة صداقة مع شاعر مشهور وقتها بطول اللسان، والافتراء على أي إنسان اسمه عبد الحميد الديب، صاحب قصيدة “دع الشكوى وهات الكأس واسكر”، والذي لم يسلم أحد من لسانه، وكان يعيش على هجاء خلق الله إلى أن يمنحوه مالًا،

 وجاءت ذات ليلة سيرتي أمامه، وقال له الأصدقاء أعضاء الجماعة الأدبية عن كل ما قرضته من قصائد شعرية، فرد وقال: الشيخ الشعراوي شاعر كويس، ولكن لا يصح أن يوصف بأنه شاعر، ولما سألوه: لماذا؟، قال: إن المفترض في شعر الشاعر أن يكون مجودًا في كل غرض، وهو لم يقل شعرًا في غرضين بالذات!

 ولما حكوا لي عن هذا الذي قاله الشاعر عبد الحميد الديب، قلت لهم: أما أنني لم أقل شعرًا في الغزل، فأرجو أن تبلغوه بأنني قرضت الشعر في الغزل أيضًا، لكنه غزل متورع، وانقلوا إليه الأبيات عني، والتي قلت فيها:

مــن لم يحركه الجمال فناقـص تكوينه

وسويُّ خلق الله من يهوى ويسمح دينه

سبحان من خلق الجمال والانهزام لسطوته

ولهذا يأمرنا بغض الطرف عنه لرحمته

مـن شاء يطلبه فلا إلا بطــهر شريعته

وبذا يدوم لنـا التمتــع ها هنا وبجنته

وأما عن الهجاء فقلت لأصدقائي: إنني لا أجد موضوعًا أتناوله إلا أن أهجو عبد الحميد الديب نفسه، ولن أشهر به، ولكن فليأت إلينا، ويجلس معنا، وأقول له إنني سوف أهجوك بكذا وكذا، ثم أخيره بعد ذلك أن يعلن هجائي له أو لا يعلنه!

وقد تحداني وقدم إلى منزلي بباب الخلق وسألني: ما الذي سوف تقوله في عبد الحميد الديب يا بن الشعراوي؟ فقلت له: والله لن أقول شعري في هجائك لأحد؛ إلى أن تقوله أنت! وأنا أقطع بأنك لن تكرر على مسامع الناس هجائي لك!

وبالفعل ما سمعه عبد الحميد الديب مني في هجائه لم يستطع ـ كما توقعت ـ أن يكرره على مسامع أحد، ولذلك كنت الوحيد من شلة الأدباء الذي سلم من لسانه بعدها؛ لأنه خاف مني وعلم قوتي في شعر الهجاء أيضًا، ومن هنا ترسخ يقيني بأن التصدي للبطش والقوة لا يكون إلا بامتلاك نفس السلاح، سلاح القوة ولكن بغير بطش،

قصّرتِ أكمامـًا، وشلْتِ ذيولا:

     وقد يظهر طرف من خفة دمه، وميله للدعابة في بعض أشعاره، كهذه القصيدة التي كتبها في الفتاة العصرية، التي يغرر بها الماجنون، ويخطف بصرها بريق الإغراء والإطراء:

قصّرتِ أكمامـًا، وشلْتِ ذيولا …… هلاّ رحمـت إهابك المصقــولا

أسئمتِ من برد الشتاء وسجنـه …… فطلبتِ تحريرَ المصـيفِ عَجُولا؟‍!

وخطرت تحت غلالةٍ شفـّـافـةٍ …… في فتنـة تـَـدَع الحليم جهولا

محبـوكةٍ، لصقت بجسمٍ مشرق …… دفعـتـه فورتُهُ، فبان فصـولا

ألححـتِ في عرض الجمال وغرك …… الأغرارُ لمّا أســمعوك فضــولا

شاهدتُ ضلّـيلًا يطـارد غـادةً  …… فنهرته حَنقـًا، فقال خـجولا:

أبغي الزواجَ بها، فقلتُ مداعبـًا …… هل كان بيتُ وليّـها مقـفـولا؟

ورنا فلم يرها، فجُـن وقال لي: …… أبُعثتَ فيــنا يا غيورُ رسـولا؟

لم يبقَ لي أرَبٌ، فما يضــطرني …… حتى أكون مكــلفـًا مسؤولا؟

قل للفتاة: الـغرُّ هــذا حبُّـه  …… إن بات ملتـاعـًا، وذاب ميولا

يلقاك كالحَمَل الوديع مضــللًا …… فإذا تمكـّن منـك أمسـى غـولا

 

رحم الله العلامة الشعراوي، وتقبله عنده في المرضيين، وغفر للمجترئين، والمتعجلين، وولاد الناس (المؤدبين) الذين لم يقرؤوا، ولم يفهموا، ولم ينصحوا، ولم يتأدبوا.. وما هكذا تورد يا سعد الإبل!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه