العراق بين حسابات الحقل وحصاد البيدر

حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي

ما لا يمكن إنكاره , أن ما هو أصعب من الحرب هو كشف حساباتها، إذ الشعوب عادة ما تكون مستنفرة أثناء الحرب راضية أحيانا بتحمل أعبائها .

حسابات النصر والهزيمة ومعاييرها في ميزان الشعوب تكشفها النتائج على الأرض، والمعركة في الموصل نعتقد أنها ستكون الكاشفة. ما تبقى من ختام هذا الفصل الدموي لا يخرج عن تصور؛  أنَّ ما تراه اليوم لا كما سمعت به في الأمس، فانكشاف غبار المعركة سيضع الجميع بين حسابات الحقل وحصاد البيدر . وحساب الحالة العراقية إستراتيجيا سيكون بمواجة المحاور الثلاثة .

( داخليا) ..

ستواجه حكومة بغداد ما بعد الموصل ملفات مؤجلة ربما استطاعت إقناع الشعب العراقي على طي صفحاتها بالذهاب مرة أخرى إلى الحرب على الإرهاب تلك الحرب التي جعلت أرض العراق مسرحا لحروب الآخرين . وبرغم أنها الحرب فقد كانت الفرصة المؤاتية لحكومة العبادي لتخفف الضغط عن كاهلها حينما استباح المتظاهرون الغاضبون مكاتب الحكومة والبرلمان في 20 مايو/أيار 2016 ، مطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية ومحاكمة المفسدين؛. فكان خيار الحرب مقدما على خيار السقوط، فهذه حسابات الحقل، والمنتظر هو حصاد البيدر .

أزمة الحلول تتفاقم إذ لا مساغ للاستئناس هنا بقاعدة دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، ولا مساحة لاختيار أهون الشرين، حيث التحديات أكبر من موضوع القدرة على المفاضلة بين سخونة الملفات .

الموصل التي تقترب ربما من الحسم مع جملة من التساؤلات عن طبيعة هذا الحسم ونتائجه، حيث يعيش من تبقى من الموصليين على أرضهم بانتظار بديل التنظيم، فالواقع على الارض، إذا ما كان المعيار هو الموت  .. فالكل واحد .

لا فرق كثيرا بين داعش وأخواتها خصوصا بعد أن تعالت نداءات الاستغاثة التي أطلقها تحالف القوى العراقية وهو أكبر كتلة سنية داخل البرلمان، مطالبة بإطلاق سراح الآلاف من المختطفين لدى الحشد الشعبي المشرعن وجوده حكوميا وبرلمانيا كقوة قتالية هي الأكبر ضمن حمَلة السلاح في العراق، ذلك الحشد الذي يرى فية مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي ثروة ورأس مال كبيرين لحاضر العراق ومستقبله!! كذلك يستعصي الجواب عن مستقبل المهجرين والمشردين في أرض الله .

المقبلون من سياسيي العراق على انتخابات مجالس المحافظات في سبتمبر/أيلول عام 2017 والانتخابات البرلمانية عام 2018، لا تفوتهم فرصة الترويج لأحزابهم الحاكمة من خلال استثمار انتصارات على الأرض متحققة ضد تنظيم الدولة وآخرها ما تبقى من غرب الموصل باتجاه الحدود العراقية السورية؛ ولكن إلى أين سيفضي هذا النصر ضمن معايير النصر والهزيمة .

سيعاني إذن الداخل العراقي بعد انكشاف غبار المعركة التي فرضت عليه داخليا وإقليميا ودوليا من جملة ملفات لا يمكن تجاوزها .

سياسيا .. سيخرج الجميع بحالة من عدم القدرة على الإيفاء في خلق جو سياسي حاكم قادر على اتخاذ القرارات وتنفيذها، نعتقد بأن قاعدة الإدارة السياسية في بغداد ستكون محملة بأعباء ملفات غير قادرة على حسمها ضمن حالة الاستقطاب التي ستخلفها نتائج المعارك، إذ من المتوقع أن نشهد العديد من الانشقاقات داخل الكتل السياسية باعتبارات خلاف الجهات الخارجية الداعمة، بمعنى أننا أمام حالة من التشظي متوقعة، فلا البيت الشيعي سيعود بيتا، ولا الانتهازية في الأحزاب والكتل السياسية السنية التي أهملت قاعدتها، ستجد لها ذلك المناخ بعد هول المآسي التي أحاطت بالمحافظات التي أكلها الموت والتي طرحت تلك الكتل نفسها ممثلة عنها. وغرابة المواقف المتقلبة للأحزاب الكردية وميليشياتها المسلحة التي يتسابق الأضداد والخصوم عالميا على دعمهم .

اقتصاديا .. سيكون العراق أمام كم هائل من الأزمات والمشاكل، إذ لا قدرة حقيقية على الإصلاح أمام حجم الديون الهائل الذي يعاني منه العراق، والملفات السياسية المتراجعة ستتداخل حتما مع الحالة الاقتصادية، يساعدها سوءا تغليب المصالح الشخصية على مصلحة البلاد في ظل الاستقطابات الطائفية والحزبية مع استمرار الفساد الإداري والمالي الذي يتغلغل في مفاصل الدولة التي تفتقد للرؤية الاقتصادية.

( إقليميا ) ..

قرارات وترتيبات لا يمتلك العراق فيها القدرة الحقيقية على التأثير، بقدر ما سيكون هو الطرف المستقبِل للنتائج المتحققة من مخرجات صراع دول الجوار والتأثير الإقليمي والدولي .

لعل إيران الطرف الأكثر تأثيرا على الحالة العراقية، أدركت سريعا أهمية اغتنام الفرصة للبروز كلاعب أساسي على المسرح الدولي مرورا بالهيمنة الإقليمية من خلال التدخل السريع في شؤون العراق، ساعدتها المرونة والمناورة وهي المتحفزة تاريخيا لجعل أرض العراق تحت مرمى أهدافها، فقد تمكن الإيرانيون من لعب دوريّ الشريك والوسيط في كل ملفات العراق المدنية والعسكرية، وبالتالي السيطرة على القرار العراقي من خلال حكومات تسيطر عليها الأحزاب ذات المرجعية الإيرانية  إضافة إلى عشرات الميليشيات التي تدين لإيران بالولاء .

لذلك فإن مرحلة ما بعد الموصل ستجعل العراق أمام استحقاقات لا تخطئ حصة إيران ، خصوصا مع نجاح إيران في أن تكون الطرف المباشر في التأثير بمعركة الموصل ، ووصول أذرعها العسكرية الميليشياوية الى أبعد نقطة بعيدة عن حدودها مع العراق ، في محاولة إيرانية لتثبيت طرف الكماشة الثاني الذي يوصلها الى سوريا شمالا بعد ان ثبـّتت وجودها على خط الجنوب متجهة بمحاذاة الحدود العراقية السعودية .

تدرك السعودية جيدا حجم الخطر الإيراني الذي لا يقف عند حدود العراق ، مع التهديدات الإيرانية للسعودية في أكثر من ملف ، ما يجعل السعودية تضغط بمعظم أوراقها الدولية لمواجهة هذا الخطر . ولعل الجغرافية العراقية ستنال القسط الأكبر من ساحة ترتيب الأوضاع التي ستجعل العراق حائرا بين تنافر حسابات الأقوياء، يتمثل ذلك بهوس الولايات المتحدة الامريكية في الاندفاع أكثر للسير طويلا على طريق الحرب على الإرهاب، مع وجود إيران المهيمنة على الأرض والقرار، والقادرة على إعادة لعبة الفوضى الى المربع الأول، فيما يبقى تقدير الموقف الإقليمي من العراق ما بعد الموصل متعلقا بالموقف التركي الذي ينظر إلى الموصل كجزء من مجالة الحيوي تاريخيا بحكم الجوار مع إدراك تركيا لحجم الخطر الإيراني المتمثل بدعمها لكل الأحزاب الكردية المناهضة لتركيا على خط حدودها المشتركة مع العراق وسوريا .

( دوليا ) ..

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إبقاء أطراف الصراع منشغلة مستنزفة ، إذ لا قدرة حقيقية لإنهاء الصراع قريبا وفق الهوى الأمريكي في ظل استحالة تفريد الملفات مع تشابك المصالح وتناقضها، وتنامي حركة التحالفات الدولية التي تبحث عن عالم متعدد الأقطاب . فهل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون قطب الرحى لهذا العالم ؟ الأمر حتما ستحدده نتائج الصراع العالمي متعدد الأقطاب الذي لن يكون العراق فيه أكثر من مسرح اختاره الأقوياء لإتمام فصول مسرحية تقاسم النفوذ. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه