العدوان على الصندوق في تونس؟

 

نستبشر بحكومة السيد إلياس الفخفاخ للخروج من أزمة حكم طاحنة تتعرض لها تجربة الديمقراطية في تونس. نتواطأ جميعنا من أجل مخرج بالحد الأدنى ونناقش تفاصيل التشكيل القادم ونحاول تخيل برنامج الحكومة ونغفل في الأثناء أن الصندوق الانتخابي التونسي قد فقد معناه. وأن البلد بكل مكوناته السياسية قد عاد إلى أساليب عمل سياسي نخبوية فوقية وأن الشعب/ الصندوق الانتخابي لم يعد مصدر الشرعية. وحتى رئيس الدولة أستاذ القانون الدستوري المغرم بالحديث عن الشعب صاحب السيادة وجد نفسه تحت ضغط الأحزاب التي فرضت خيارات مخالفة لنتيجة الصندوق. ونتعزى بحكومة الفخفاخ ولكن خوفنا على سلامة المسار الديمقراطي تتأكد.

الفخفاخ خلطة خيميائية

يشبه ما جرى من تصعيد السيد الفخفاخ لرئاسة الحكومة عملية خيميائية ( لخيماء في العلوم القديمة تجارب ظاهرها  كيمياء وباطنها سحر ظن القدماء انهم يجدون بها حجر الفلاسفة الذي يحول كل المعادن ذهبا) أنتجت معدنا صالحا بالصدفة ولكن لم نعثر بها على حجر الفلاسفة. وصول السيد الفخفاخ مطمئن لجهة أنه جرب سابقا فصلح وأثبت قدرة على التعايش ضمن الديمقراطية لكن الأسلوب الذي انتهت إليه العملية السياسية غير ديمقراطي. لذلك نتوقع أن سيتطور فعل الاعتداء على رأي الشعب صاحب السيادة إلى أعمال أخرى مخالفة لشروط الديمقراطية ولو كان يقودها شخص ديمقراطي فشروط العمل السياسي تغيرت ومن علامات ذلك قفز ما تبقى من حزب الفخفاخ القديم (التكتل من أجل العمل والحريات) إلى المشهد وإعلان نفسه حزبا حاكما وله الحق في المشاركة بنصيب حزب حاكم.

إننا نغفل عامدين في هذه اللحظة أن ما جرى قد استند إلى خلفية استئصالية موجهة ضد حزب النهضة بالذات. فالحزب الذي فوضه الصندوق الانتخابي تعرض إلى مظلمة كبيرة ووجد نفسه ينسحب إلى موقع ثانوي حفاظا على العملية السياسية ولو في حدها الأدنى الديمقراطي ومنشغلا في الوقت ذاته بسلامة وجوده المهدد دوما.

لم يكن إسقاط حكومة الجملي (المقترح من النهضة طبقا لشروط مجحفة) إلا رفضا جذريا لحكم حزب إسلام سياسي ينتخبه الشعب وترفضه النخب. أن ما جرى هو مواصلة لغمط حق حزب النهضة الذي حل ثانيا في انتخابات 2014 ولم يأخذ من حكومة الحبيب الصيد إلا وزيرا تقنيا بلا دور حقيقي في التأثير على الحكومة. وكان ذلك ضمن منطق غير ديمقراطي استعمل كل وسائل التهديد والترهيب. فلما حل أولا في 2019 وصار من حقه تشكيل الحكومة تحالفت ضده كل القوى الحزبية والنقابية ودفعته إلى وضع الدفاع عن نفسه من جديد فقدم الحفاظ على وجوده على حقه في المشاركة.

أربعة أشهر من التفاوض المضني هدفها الأول أن لا يكون لحزب النهضة أي تأثير على مجريات الحكم. والمعول الآن على الخيميائي الجديد أن يحفظ المسار من ردة نحو استئصال أشد.

نخبة لا تحترم شعبها

جوهر ما جرى إذن هو احتقار النخب لرأي الشعب صاحب السيادة وقد شارك الرئيس في ذلك مكرها إذا أحسنا به الظن أو متواطئا في الأعم الأغلب. فقد كان أمامه بحكم الدستور أن لا يقبل الاعتداء على نتيجة الصندوق فيعلن العودة إلى الصندوق في انتخابات سابقة لأوانها أو يصر وهو من حقه أيضا أن لا يقبل تعيينا من خارج الحزب الفائز ولكنه حشر في زاوية ضيقة فإما أن تستمر العملية السياسية بما تيسر من ديمقراطيين أو أن ينهار العمل السياسي برمته ويدخل البلد في مرحلة فوضى. وهي نفس الزاوية التي وضع فيها حزب النهضة بضغط الحوار الوطني الذي استثمر في الاغتيالات السياسية وفي انقلاب العسكر المصري سنة 2013. فأسقط المنتخبين وجاء بغيرهم دون العودة إلى رأي الشعب.

النخبة التي لم تنل حظها بالصندوق (أسقطها الشعب) أسقطت حكومة الجملي بقوة مواقعها ووسائلها غير الديمقراطية رغم أن الحكومة تشكلت بشروطها (رئيس حكومة مستقل ودون وزارات السيادة للحزب الأول وتركيبة من مستقلين تختارهم المعارضة). وهذه النخبة تلتف الآن من وراء حكم الصندوق على حكومة السيد الفخفاخ ونميل إلى الاعتقاد أن ستضغط حتى لا يجد الحزب الفائز فيها مكانا إلا كما وجد في حكومات الباجي قائد السبسي. فهل ينقذ السيد الفخفاخ حكومته من الالتفاف الإقصائي؟ في كل الحالات سنرى المزيد من استبعاد حزب النهضة وبالتالي امتهان نتيجة الصندوق الانتخابي فالتفاوض يجري الآن على تحجيم حزب النهضة قبل فرض أسماء وازنة مستقلة في الحكومة. فلماذا نعلن التفاؤل رغم ذلك؟

ديمقراطية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

نجد أنفسنا مرغمين على القبول بالحد الأدنى من الديمقراطية معولين على ملامح ديمقراطية لرئيس الحكومة. نجد أنفسنا في وضع غير ديمقراطي نقول فيه إن حكومة تدفع إلى تحريك عجلة الاقتصاد المنهار أفضل من التمسك بشكلية المشهد الانتخابي(احترام النتائج). هكذا بررنا مكرهين للباجي قائد السبسي وحكوماته التي فشلت كلها. وكانت التعزية أنه رغم فشلها الاقتصادي لم تستطيع العودة بالبلد إلى مربعات بن علي الاستئصالية رغم محاولاتها المتكررة في إسقاط المسار الانتخابي وخاصة مقترح وثيقة قرطاج2 (صيف 2018) ونرسل الأمل على المستقبل فحيث تبقى حدود الحرية السياسية مصانة ستتم العودة قسرا للصندوق مهما تأخر الزمن.

كم سيدافع الفخفاخ على مربع الحرية لنضمن عودة للصندوق؟ هذا ليس دور رئيس الحكومة وحده. سيكون على الرئيس المنتخب بشعبية كبيرة والذي خضع لشروط الأحزاب الفاشلة أو أكره على مخالفة الدستور أن يتولى حماية الحريات وسيكون على كل مستثمر في الحرية وأولهم حزب النهضة ضحية الإقصاء الأبدي أن يواصل الدفاع عنها كضمانة أخيرة لإعادة المعنى للصندوق الانتخابي.

لقد اعتدت النخب غير الديمقراطية أو المكرهة عليها بقوة الثورة على رأي الشعب وحقرت اختياراته وأبقت العملية الديمقراطية في مربعها الاستئصالي رغم وجود رئيس حكومة ديمقراطي (حتى الآن) بما مدد معاناة الشعب الذي يتابع من قريب ويراكم وعيا سياسيا. سيكون له بلا شك أثر على الصندوق القادم.

إن الأمل الوحيد الذي وجب إعلانه هو أنه مادام الصندوق الانتخابي معلقا فوق رؤوس النخبة كسيف ديمقليطس فسيكون لهذا الشعب رأي مرجح ولو بعد حين. لنقل كنوع من العلاج الذاتي إن حكومة السيد الفخفاخ هي آخر حكومة تتشكل على أساس استئصالي.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه