العالم المتغطرس المهزوم إذا استمر كورونا !

 

هل يأتي يوم قريب يتوقف فيه هجوم فيروس كورونا المستجد، ويصبح ذكرى كئيبة؟

غالباً سيحدث هذا، كما حدث من قبل مع فيروسات عديدة تمكنت من البشر، وتسببت في وفاة عشرات الملايين منهم.

لكن ماذا بعد الهجوم المباغت للفيروس، وهزيمته كل الدول التي غزاها، كبيرةً وصغيرةً؟

البلدان الذكية التي تريد الخروج من هذه المحنة بعد انقشاعها بالدروس المفيدة لحاضرها ومستقبلها عليها أن تراجع بعمق واهتمام وشفافية كل ما حدث لها منذ لحظة قصف الفيروس لمواطنيها؛ فشلها وإخفاقاتها، نواقصها وسلبياتها، وكل أوجه القصور في منظومة الإدارة والعمل فيها، وأيضاً دراسة مستوى جديتها ومناعتها الذاتية والجوانب الإيجابية التي ظهرت خلال فترة المجابهة.

 هذا لمن أراد أن يفهم ويعتبر، فالمحنة أعظم تحد للبشرية منذ عقود، ولم يقف العالم يوماً عاجزاً عن مواجهة ميكروب شديد الضآلة كما هو الآن رغم أنه يقف على قمة التقدم والحضارة والنبوغ العقلي في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية.

كورونا الرابح الأكبر

كورونا أعلن الحرب على كل دول العالم، فلم تسلم دولة واحدة من هجماته وإيقاع ضحايا فيها، بينما هو لم يخسر شيئاً، هو الرابح الأكبر والأوحد، وسيظل كذلك حتى ينجح عقل بشري قابع داخل معمله في التوصل إلى اللقاح الذي يهزمه للأبد، ثم تنتظر البشرية تحديا جديدا من فيروس أو كائن آخر جديد.

هذا الفيروس ينتظر عقلاً يصطاده، لا سلاحاً مدمراً يستهدفه، فلا دور للسلاح مهما كانت دقته في هذا العمل العلمي شديدة التعقيد.

ومن مفارقات الحرب التي يشنها هذا الكائن الخفي أن القوى الكبرى في مرماه، وعلى رأسها الكبار الذين يتحكمون في القرارات الدولية، إذا شاءوا يمررونها، وإذا اختلفوا يعرقلونها، لكنهم يقفون مستسلمين ويفعل بهم الفيروس كل الأفاعيل، وأكبر عدد من الخسائر البشرية والمادية في بلدانهم، هم الكبار في إدارة العالم، وهم الكبار في ضحايا كورونا أيضاً، وما دونهم من بلدان لم يسلموا من الضربات كذلك.

القوى الكبرى المهزومة

أبرز المهزومين المتغطرسين حتى اليوم، أمريكا، إيطاليا، الصين، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، روسيا، وهى دول كبرى متقدمة، ومعها إيران، وهى دولة من العالم الثالث، ومن المفارقات أنها تريد استعادة الحلم الإمبراطوري القديم، لكن ضعفها ينكشف أمام الفيروس، ويتضح أن أحلامها مجرد أوهام، وأن تمددها في البلدان العربية مثير للشفقة، فلم يساعدها ذلك في تجنب الفشل في مواجهة الفيروس وخسارة أرواح مواطنيها.

وإسرائيل التي تعتبر نفسها محصنة عن الاختراق من جميع العرب، باستثناء صواريخ من حماس وحزب الله تثير ذعرها  أكثر ما توقع ضحايا فيها، فإن كورونا يخترقها كما يشاء رافعاً رأسه من دون أن يخشى قبضتها العسكرية الرهيبة، وينكل بها، ولا يترك مستوطناً محتلاً من قائد سياسي متغطرس من جنرال عسكري قاتل إلا ويهدده أو يصيبه.

إذا جاز الوصف فإن هذا الفيروس مثل المستبد العادل، ورغم صعوبة العثور على وصفة هذا الشخص بين البشر، لكن لأن كورونا بلا عقل ولا مشاعر ولا مصالح خاصة، فإنه يوزع مخاطره على الجميع وهو مغمض العينين.

ترسانات سلاح بلا فاعلية

ولعل العالم المتفرعن يتأكد أنه لا قيمة لترسانات السلاح الهائلة؛ نووية وتقليدية، التي يمتلكها أمام نوع آخر من حروب القوى الخفية التي تسخر من البشر، فلا يقتل الفلسطينيون من الإسرائيليين في عمليات المقاومة ما يقتله كورونا منهم، ولم يسقط للأمريكان في هجمات 11 من سبتمبر /أيلول2001 ما يسقط منهم في هذا الوباء، ولم يتوف من الصين وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا مثل هذا العدد منذ الحرب العالمية الثانية.

كما يتأكد بشكل أكثر وضوحاً أن السلاح المكدس في المخازن بلا قيمة أمام فيروس حقير، والشركات الكبرى التي تنتج هذا السلاح وتصدره وتبيعه للعالم قد توقف خطوط إنتاجها مرغمة عندما يصيبها الركود، وتصير هذه القلاع الصناعية بلا فائدة، وهنا يكون مصنع لإنتاج ألبان الأطفال، ومزرعة لتربية الأبقار لتوفير الحليب، ومنتجات الألبان، وأراضٍ تنتج القمح لصنع الخبز أكثر فائدة للناس.

ماذا عندما يستمر الفيروس؟

الدرس المهم للبشرية أن ما بلغته من حضارة، وأن كل إنجازاتها المتراكمة عبر التاريخ قابل للانهيار التدريجي خلال زمن قد لا يطول مع تفشي فيروس صغير جداً وعدم القدرة على محاصرته والسيطرة عليه أو التوصل للعلاج الفعال ضده.

إذا استمر كورونا عاماً كاملاً يمرح في الأرض، ويجد في أجساد البشر المرعى الخصب له، كم دولة يمكن أن تسقط ويصير وجودها والعدم سواء، وكم قوة عظمى يمكن أن تتحول إلى دولة عادية، وما كان في عالم السينما والخيال من عودة الإنسان إلى بدايته الأولى على هذا الكوكب نلمس ظلالاً له في قراءة أوضاع البلدان وفرض العزلة الإجبارية وقطع التواصل العالمي وانكماش كل بلد على نفسه وهو يجاهد لمحاولة تقليل الخسائر وليس إيقافها.

أكبر تجارة في العالم هى السلاح، وأكبر المصانع التي تنتج السلاح، وأكثر أزمات العالم يتم تفخيخها لتنفجر إلى حروب لبيع السلاح للمتقاتلين، والدول تتعالى على الدول الأخرى عبر القوة العسكرية، وإسرائيل المثال في تفوقها العسكري على العرب، وأمريكا تهيمن على العالم بسلاحها وآلتها العسكرية الجبارة، والدول التي تمتلك السلاح النووي تفرض معادلات جديدة على محيطاتها والعالم، وإيران إذا امتلكت النووي ستتحول إلى قوة عظمى إقليمية نافذة في المنطقة، لكن كل هذا بلا تأثير حقيقي أمام الكائن المجهري شديد الضآلة، كل هذا السلاح مثل (الخردة) أو (الصفيح) قليل القيمة.

سلاح العلم النافع

لكن هناك سلاح من نوع آخر يتعاظم دوره وقيمته وفاعليته على الدوام، سواء في وجود الميكروبات أو خلال فترات الأمان من أضرارها، وهو سلاح العلم النافع، وسلاح العقل الذكي الذي يقف وراء المعارف الإنسانية ليبني ويعمر ويرفع من قدر الإنسان ويحافظ على حضارته ونهضته، وليس العلم الذي يهدم ويخرب، فكما أن هناك علم يسعى لتصنيع فيروسات قاتلة وأسلحة مدمرة، هناك علم يبحث في اكتشاف اللقاحات والأدوية والعلاجات.

العلم والعقل النابه الذي يقف وراءه هو العنصر المفيد دوماً للبشرية، والغرب الذي يمتلك أسرار العلوم والمعارف ويحتكر البحوث والاختراعات والابتكارات واكتشاف كل جديد لا يزال يقف عاجزاً أمام الفيروس، لكنه يعمل ويفكر ويجرب وهذا جيد.

إنما على العقل النابه أن يدرك في هذه اللحظة أيضاً أنه (فوق كل ذي علم عليم), و( ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، وهذا هو الجانب الروحي المفتقد في الحضارة الغربية، وهو الجانب الثمين في الإسلام، لكننا لا نجيد تقديمه للعالم لأننا غير مشاركين في صنع حضارة ذات أبعاد أخلاقية، ولعل الوباء يوجه الأبصار إلى السماء، ويجدد الإيمان في القلوب.

التنمية العربية وليس السلاح

ماذا فعل سلاح السعودية التي تحل أولاً أو ثانياً في قائمة الدول التي تشتري السلاح على مستوى العالم أمام كورونا؟ لا شيء، سلاحها في مخازنه، ومواطنيها يتعرضون لضربات الفيروس، ومعها البلدان العربية التي تخصم كثيراً من موازنات التعليم والصحة والبحث العلمي وجهود التنمية لصالح الإنسان لشراء وتكديس السلاح بذريعة مجابهة أعداء غالبيتهم مصطنع.

هذه الدول، وغيرها، يجب أن تنتبه لرؤية حقيقة نفسها في مرآة كورونا، فكل دولة منشغلة بدرء مخاطر الفيروس عن نفسها أولاً، وتنتظر قدرها، هل تنجوا، أو يطيح بها الفيروس، دون أن ينفعها السلاح، أو علاقاتها مع الكبار، أو المليارات التي تدفعها لهؤلاء الكبار مقابل دعم وبقاء النظم الحاكمة.

لم يكن ينفعها اليوم إلا عقول أبنائها، المغيبة في الداخل أو المهاجرة في الخارج، وخطط التنمية الوطنية، ومعاملها ومراكز بحوثها، وصناعاتها الدوائية وقطاعاتها الصحية والطبية المتطورة وزراعاتها ومنتجاتها الغذائية التي تحقق متطلبات شعوبها ولا تجعلها تواجه نقصاً في الضروريات.

اليوم، لا قيمة لبرميل النفط العربي، وحقول الغاز، ومرة أخرى يظهر أن نقطة الماء أهم من بحر النفط، ماذا ستقدم الطاقة إذا ما توقف بيعها مع ركود حركة التصنيع والتجارة العالمية؟ الماء والأرض الجاهزة للزراعة تسبقان السلاح والنفط في الشدة كما في الرخاء.

بلدان الحكم الديمقراطي الرشيد لن تمرر كارثة كورونا من دون استيعاب دروسها كاملة بعد انكشاف سلبياتها بشكل مذهل رغم تطورها، فالمحاسبة قادمة، أما أنظمة حكم الفرد فلن تدرس ولا تستوعب، وستواصل سياستها في السيطرة على المجتمع وتمتين وجود الحاكم في السلطة، وشعارها سيظل كما هو؛ يبقى الحاكم ويفنى الشعب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه