الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم

 

هذا الكتاب من الكتب المهمة لترشيد الصحوة الإسلامية، فهناك عدة أنواع من الفقه مطلوب من أبناء الصحوة أن يتقنوها، ويتعمق فهمهم لها، وهي: فقه النص، أي فهم نصوص الإسلام من القرآن والسنة، فهما صحيحا بلا سطحية. وفقه النفس، أي تزكيتها والرقي بها. وفقه البدن، وهي تربية النفس على التربية الجهادية. وفقه الأولويات، كي يعرف أبناء الصحوة ما حقه التقديم، وما حقه التأخير. وفقه الواقع. وفقه السنن الكونية. وأخيرا فقه الاختلاف. الذي ألف الشيخ يوسف القرضاوي هذا الكتاب (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) تأصيلا له وتعميقا.

عالج خلالا

وكان من أهم الدوافع وراء تأليف الكتاب: حرص الشيخ على تعميق آداب الاختلاف عند أبناء الصحوة الإسلامية، الذين باتوا متفرقين في أمور ليست من مواطن التفرق، وقد سد ثغرة في موضوعات الصحوة الشائكة، وعالج خللا طالما وقع فيه أبناء الصحوة، فكثير منهم لم يكن يميز بين ما يجوز فيه الاختلاف، وما لا يجوز، ولم يعرفوا كيف نختلف ولا نتفرق؟ هذا الكتاب يجيب على هذا السؤال.

في بداية الدراسة أكد الشيخ على أن الاتحاد والترابط فريضة دينية، دعا إليها القرآن الكريم فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تفلحون) آل عمران: وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى:13.

ودعت إليه السنة النبوية المطهرة في عدة أحاديث، بينت أهمية الاتحاد، وحذرت من الفرقة والتشرذم، فقال صلى الله عليه وسلم: ” إن الله لا يجمع أمتي ـ أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار”.  وقال: ” من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتة جاهلية”.

والإسلام يحرص على الجماعة والوحدة لأن الاتحاد يقوي الضعفاء، ويزيد الأقوياء قوة، على قوتهم. كما أنه عصمة للفرد من الهلكة، فالفرد وحده يمن أن يضيع، ويمكن أن يسقط، ويفترسه شياطين الإنس والجن، ولكنه في الجماعة محي بها.

ونفى الشيخ أن يكون تفرق الأمة قدرا لازما أو دائما، وأنه لا أساس لما يستشهد به أصحاب هذا الرأي، وإن كان لهم دليل من السنة وهو حديث: ” افترقت اليهود على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى  على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ” فقد ناقش الشيخ الحديث من ناحيتين: من ناحية سنده، ومن ناحية معناه، أما عن سنده فقد اختلف علماء التخريج قديما وحديثا في سنده، ما بين مضعف ومحسن لسنده، أما عن فقهه: فقد يكون الحديث يقصد فترة من فترات تاريخ الأمة، تتواجد فيها هذه الفرق ثم تنقرض، أو أن المقصود بالأمة هنا: أمة الدعوة لا أمة الإجابة.

الدعائم الفكرية لفقه الاختلاف:

ثم بين الشيخ أن لفقه الاختلاف دعائم فكرية، ودعائم خلقية، أما عن الدعائم الفكرية فهي:

1ـ الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة: فالاختلاف في الفروع ضرورة، أوجبتها طبيعة الدين الذي جعل الله نصوصه تحتمل أكثر من فهم، وأكثر من رأي، وضرب لذلك مثلا بقوله تعالى (أو لامستم النساء) هل المقصود هنا: لمس البشرة للبشرة؟ أم أنه كما قال ابن عمر: إن الله حيي يكني بما شاء عما شاء، فكنى عن الجماع باللمس؟ وهو ضرورة أوجبته طبيعة البشر، فالبشر ليسوا نسخا كربونية متكررة، فكل إنسان له طبيعته، هناك إنسان طبيعته الميل للتشديد، وآخر طبيعته الميل للتيسير، ولذا اشتهر في تراثنا الفقهي: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود. والاختلاف ضرورة أوجبته اللغة العربية التي تحتمل وجوها عدة لكل مفردة من مفرداتها. وضرورة أوجبتها طبيعة الكون والحياة، فالكون كله مختلف ولا شيء فيه ليس فيه اختلاف، إلا الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد الفرد الصمد.

وهو رحمة وسعة لأن الاختلاف في الفروع يجعل الناس في بحبوحة من أمرهم، فالإنسان سيجد أكثر من رأي، يستطيع أن يأخذ بواحد منهم دون إثم أو حرج. وهو ثروة كذلك، لأن الاختلاف في الفروع خلف لنا ميراثا ضخما من أقوال العلماء والفقهاء، وهو ثروة قانونية لا توجد في أمة من الأمم السابقة ولا اللاحقة.

2ـ اتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين: ومما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الداعين إلى الإسلام: اتباع المنهج الوسط، الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيدا عن طرفي الغلو والتفريط، وهو الذي جاء فيه قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) الفاتحة:6 وقوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) الأنعام:153. وقول علي بن أبي طالب: “عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي”.

ولا بد أيضا من اجتناب التنطع في الدين، وهو ما أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهلاك حينما قال لهم: “هلك المتنطعون” قالها ثلاثا[1]. والمتنطعون هم: المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. والتنطع له أشكال متعددة.

3ـ التركيز على المحكمات لا المتشابهات: وهو مما يعين على الائتلاف، ويبعد عن الفرقة والاختلاف، فاتباع المحكمات، واتخاذها الأصل والقاعدة في التفكير والسلوك من شأن الراسخين في العلم، واتباع المتشابهات من شأن الذين في قلوبهم زيغ ودخل، مصداقا لقوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) آل عمران:7.

4ـ تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية: كما أنه ليس لإنسان أن ينكر في مسألة مختلف فيها، ولا أن يقطع فيها بصحة رأي دون الآخر، وهذا مما يعين على الاتفاق والائتلاف. وكثيرا ما اختلف الصحابة في الرأي، وذهب كل منهم إلى رأي يخالف رأي الآخر، ولم يعلم عنهم أن صحابيا أنكر على الآخر. وهذا كثير في حياة السلف الصالح، وإلا كيف وسعت دولة الإسلام أن يوجد بها هذه المذاهب الإسلامية، ولم ينكر أحد منهم على الآخر.

5ـ ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء: ومما يعين على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على اختلاف العلماء، ليعرف منه لماذا اختلفوا؟ وكيف اختلفوا؟ وما أدلتهم على اختلافهم؟ وليوقن القارئ أن القضية ليست موضع إجماع، فيسعه عدم الإنكار. ولذا قال فقهاؤنا: لم تشم أنفه رائحة الفقه من لم يعرف اختلاف الفقهاء! وقالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم. ومن يطلع على كتب المذاهب يعلم أن قضايا الإجماع قضايا ضئيلة جدا، ولن يعرف هذا إلا باطلاعه على كتب المذاهب، ويرى فيها اختلاف الفقهاء.

6ـ تحديد المفاهيم والمصطلحات: ومن الأمور المهمة لتقريب شقة الخلاف بين المسلمين عامة، وبين الفصائل العاملة للإسلام خاصة: تحديث (المفاهيم) فكم من نزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط.

ومن ذلك: مصطلحات الكفر والإيمان، والشرك والنفاق والجاهلية، وما يحوم حول هذه المعاني. فبيان الفرق بين كفر العمل، وكفر العقيدة، ونفاق العمل، ونفاق العقيدة، وما يكفر به المرء وما لا يكفر به، هذا تفريق مهم. والجاهلية والمقصود بها، هل هي جاهلية زمان؟ أم جاهلية حال، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. ومصطلح الجماعة، ومخالفة الجماعة، ما المقصود منها؟ كل هذه مصطلحات ومفاهيم إذا تركت رجراجة دون أن تثبت في قالب واضح، ستظل موضع نزاع وخلاف، ومن أسباب اتساع الشقة والفرقة بين العاملين للإسلام. فينبغي توضيحها وتبيينها.

7ـ شغل المسلم بهموم أمته الكبرى: ومما يعين على الاتفاق والائتلاف: شغل النفس بالهموم الكبيرة، والآمال العظيمة، والأحلام الواسعة، فإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، واقتتلت ـ أحيانا ـ فيما بينها على غير شيء!

وهذا ما فعله أهل العراق ذهبوا ليسألوا ابن عمر في دم البعوض، وأيديهم ملوثة بدم الحسين!

فما أكثر هموم الأمة لو شغلنا أنفسنا بها، فهناك عدة هموم وهي: هم التخلف العلمي والتنكولوجي. هم التظالم الاجتماعي والاقتصادي. هم الاستبداد والتسلط السياسي. هم التغريب والغزو الفكري والثقافي. هم العدوان والاغتصاب الصهيوني. هم التجزئة والتمزق العربي والإسلامي. هم التسيب والانحلال الخلقي.

كل هذه هموم يا حبذا لو شغل المسلمون أنفسهم بها، بدل الخلاف حول أمور يسع الجميع أن يعملوا بأحد الآراء فيها. 

8ـ التعاون في المتفق عليه: فما أكثر ما اتفق عليه المسلمون، وما أقل ما اختلفوا فيه، لو قيست مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف! فلسنا مختلفين في وجوب دعوة الإسلام وتبليغها إلى غير المسلمين، ولسنا مختلفين في الفرائض، ولا في الكبائر، فلنتفق على الدعوة إلى الفرائض، ومحاربة الكبائر. وهكذا ما أكثر نقاط الاتفاق بيننا نحن المسلمين.

9ـ التسامح في المختلف فيه: إذا كان التعاون في المتفق عليه واجبا. فأوجب منه التسامح في المختلف فيه. وبهذا تكتمل القاعدة الذهبية بشقيها، وهي القاعدة التي صاغها العلامة المجدد محمد رشيد رضا التي تقول: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.

وهذا التسامح المنشود بين المسلمين بعضهم البعض، يقوم على جملة مبادئ، منها:

أـ احترام الرأي الآخر، بحث لا نحقر رأيا مهما كان مخالفا لرأينا.

ب ـ إمكان تعدد الصواب، وليكن شعارنا في ذلك ما قاله الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غير خطأ يحتمل الصواب “. 

10ـ الكف عمن قال (لا إله إلا الله): فلا بد من كف الأيدي والألسنة عن كل من نطق بهذا الشهادة، التي عصم الإسلام بها الدماء والأموال والأنفس، كما في ورد في الحديث الصحيح. بل عندما قتل أسامة بن زيد رجلا نطق بالشهادتين، ولما سئل في ذلك قال: إنما قالها تعوذا من السيف، قال له صلى الله عليه وسلم: “هلا شققت عن قلبه؟! كيف بك بلا إله إلا الله. فلا بد من كف الأيدي والألسنة عن أهل القبلة جميعا.

الدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف:

بعد أن بين الشيخ القرضاوي الدعائم الفكرية لفقه الاختلاف، نبه على دعائم أخرى لا تقل أهمية عن الدعائم الفكرية، بل هي مكملة لها، وهي الدعائم الخلقية، وهي كالتالي:

1ـ الإخلاص والتجرد من الأهواء.

2ـ التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف.

3ـ إحسان الظن بالآخرين.

4ـ ترك الطعن والتجريح للمخالفين.

5ـ البعد عن المراء واللدد في الخصومة.

6ـ الحوار بالتي هي أحسن.

ما أحوج أبناء الأمة الإسلامية إلى هذه الدعائم الفكرية والخلقية للاختلاف، في هذا الوقت، الذي تشرذمت فيه الأمة، وأصبحت متفرقة تفرقا يكيد الأحبة، ويفرح الأعداء.

 


[1] رواه مسلم (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه