الشيخ كشك في ذكراه

 

اليوم 6 ديسمبر ذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد كشك.

لم يقدر لي أن أستمع للشيخ رحمه الله وهو يخطب الجمعة بشكل مباشر فقد جئت إلى القاهرة وهو ممنوع من الخطابة بقرار رئاسي، وظل ممنوعاً إلى أن لقي ربه في 6 ديسمبر سنة 1996، بعد أن كان ملكاً متوجاً على عرش الخطابة!

قبل أن استمع إلى خطبه كان الرجل ملء السمع والبصر، وحديث الناس في بلدتنا، الذين كانوا يتحدثون عن هذا الشيخ الجسور، الذي لا يخاف من الحاكم ولا يأبه ببطشه، وكان الناس في بلدتنا يحيطون اسمه بالأساطير.. هكذا يتعاملون مع أي شخص يحبونه، ويرونه مثالاً للعالم الصالح الذي يقول كلمة الحق عند كل سلطان جائر!

أذكر أن أول خطبة له استمعت إليها مكتملة كانت وهو في السجن عندما صدر قرار بالتحفظ عليه من قبل الرئيس السادات في سبتمبر سنة 1981، وكانت مسجلة على شريط كاسيت، وتحمل رقم 410، إذ كانت خطبه مسلسلة وتحمل أرقاماً، وفي هذه الخطبة أبدي أسفه لحرب العراق وإيران، وأبدى حزنه لأن الهند (التي تعبد البقر) وكوبا (الشيوعية) تعملان على وقف الحرب بين البلدين، و(الأمة في غفلة).

الشيخ خطيباً

ومن أهم ما يميز خطب الشيخ عبد الحميد كشك أن خطبة الجمعة كانت خطابا نارياً يبكي خلاله المصلون، الذين ترتفع حناجرهم وهم يردون عليه وهو يسألهم: من الواحد؟ فيقولون: الله. من الماجد فيردون: الله. من الواجد: فترتفع حناجرهم الي عنان السماء بـ: الله!

أما الدرس الذي كان في يوم آخر، فتحتوي على كثير من النكات والقفشات التي كان يجيد إطلاقها فتضحك المصلين، إذ كان خفيف الروح سريع البديهة يرحمه الله.

في صباي كنت أستمع له ولو من بعيد لا أتبين ما يقول، فيقشعر بدني، وأشعر بان شعر رأسي قد هب واقفاً، وعندما صدرت مذكراته في منتصف الثمانينات وعقب خروجه من المعتقل عن دار “المختار الإسلامي” بادرت بشرائها، واذكر أنني لم أنم حتى انتهيت منها تماما، إذ كنت مهتماً – ولا زلت – بمعرفة كل شيء عن هذا الرجل، الذي كان على الرغم من ظروفه لا يخشى في الحق لومة لائم، وكان زعيم المعارضة الدينية في مصر، ولم يبال بما تعرض له من سجون ومحن.

قرأت عنه في كتاب لواحد من الكتاب الأجانب قبل سنوات عبارات دونتها، ولم أدون اسم المؤلف أو الكتاب..

قال: ” في السنوات الأخيرة من حكم السادات كان من المستحيل السير دون سماع صوته الجهوري.. فإذا ارتقيت إحدى سيارات الأجرة الجماعية فستجد السائق يستمع لإحدى خطب الشيخ كشك علي جهاز الكاسيت الموجود بالسيارة، وإذا توقفت لتناول عصير الفاكهة على ناصية أحد الشوارع وبينما ترتشف الشفتان عصير القصب أو المانجو تنهمر على الأذنين عبارات آخر الخطب التي ألقاها الشيخ تنبعث من جهاز التسجيل القديم الذي يمتلكه البائع بين وصلتين الأولي لكوكب الشرق أم كلثوم والثانية أغنية مشهورة لأحد المطربين الشعبيين، وإذا رجعت إلى منزلك ستسمع صوتا منبعثا من الشارع يطرق أذنيك بلغة القرآن الفصحى.. فالبواب الذي يجلس على مقعده ليلا ونهارا يستمع لكشك.. إنهم يستمعون لكشك في القاهرة.. وفي الدار البيضاء.. وفي حي المغاربة في مرسيليا. حتى إن إحدى المجلات ذات التمويل السعودي وصفته بأنه نجم الدعوة الإسلامية.. وقد كان له بالطبع مقلدوه ولكن لم تتوافر لأحدهم حباله الصوتية التي لا تضاهي.. وروحه الجسورة في انتقاده للأنظمة المستبدة وللديكتاتورية العسكرية ولمعاهدة السلام مع إسرائيل ولتواطؤ الأزهر.. أي إن كشك أعلي أصوات حركة الإسلاميين كان معارضا”.

اللقاء

للقائي بالشيخ الراحل في بداية التسعينيات قصة، فلم يكن لديه هاتف حينها في منزله، وكان من يريده يتصل به عند الجيران، وفي كل مرة يأتيني صوته أنه مسافر البلد الآن.. وعندما يعود سيكون في انتظاري ولا يحدد لي موعداً للعودة، وكان سفره إلى مسقط رأسه بمحافظة البحيرة.. وكنت أتحرج من الاتصال بالجيران الذين لم يبدوا يوماً ضجراً على الرغم من أنني اتصلت بهم عشرات المرات، وفي كل مرة كان صوت الشيخ يأتي بأنه مسافر الآن.. إلى أن جاءت اللحظة التي حدد لي فيها موعداً

كان اللقاء بعد صلاة العشاء في شقته المتواضعة بمنطقة حدائق القبة ولم أفاجأ بذلك فقد كنت أعلم أن الشيخ فقير، ولم يكن المال هو ما يطمح إليه.

ذات مرة كنت عند الشيخ صلاح أبوا إسماعيل عضو مجلس الشعب في منزله ووجدت شخصاً خليجياً يحمل ” شنطة” وبدا في حديث هامس مع الرجل الذي ارتفع صوته قائلا بأنه من الأثرياء، وإذا بنا نفهم أن الحقيبة بها أموال وأن الضيف يريد أن يتبرع بها لأحد الدعاة وقد اختار الشيخ صلاح والذي قال له: اذهب بها إلي الشيخ كشك فهو فقير..

وقد انشغلت أنا وأحد الأصدقاء بتتبع خط سير الحقيبة وعلمت بأن الشخص الخليجي وصل لمنزل الشيخ كشك وأنه رفض التصدق عليه بإباء وشموخ يليقان به.

كان لا يمل من الدعاء “الله أحيني فقيرا وامتني فقيرا واحشرني في زمرة الفقراء”، وقد فتحت أمامه أبواب السفر الي دول الخليج للعمل في جامعاتها الدينية ورفض أيضا فقد قال في خطبة له: أنا ادعو الله ان يحييني إماما ويميتني إماما ويقبض روحي وأنا ساجد له”

وقد استجاب الله لدعائه، ومات رحمه الله بينما كان ساجداً قبل أن يترك منزله الي صلاة إلى الجمعة، فقد أطال في السجود ليكتشف أهل بيته ان روحه الطاهرة قد غادرت إلى بارئها.

مات دون أن يخضع بالقول لنظام غاشم ومستبد..

قال لي عندما التقينا: أنت اتصلت بي كثيراً يا أستاذ سليم؟

وأجبت: نعم يا فضيلة الشيخ وفي كل مرة تقول لي أنك مسافر الي البلد!

قال ضاحكا: حيرت قلبي معاك على رأي الست!

كانت لحظات تاريخية التي التقيت فيها بهذا الأسد الهصور.. الذي أخذ الله منه نور البصر منذ أن كان طفلاً ومنحه نورا في البصيرة جعله رمزاً عظيما.

حدث موقف أثناء اللقاء ندمت عليه كثيراً بعد ذلك.. فكرت في مراسم اللقاء.. وطنت نفسي أنحني وأقبل يده عندما أصافحه.. لكني لم افعل.. ربما “بعض كبر” وربما وسوس لي الشيطان بشيء ما، ليمنعني شرف تقبيل يد عالم كان شجاعاً، ولم يكن يأبه بسيف المعز وذهبه..

قد تختلف معه، لكنك في النهاية لا يمكن إلا أن تذكر اسمه بكل إجلال وإكبار، لاسيما عندما تشاهد ظاهرة الدعاة الجدد الذين تعد الدنيا هي ما يشغلهم.. وكان الشيخ كشك زاهداً رزقه الله فضيلة “الاستغناء”.

تكفير سيد قطب

لقد بدأت محنته أول الأمر في سنة 1966 عندما زاره شابان وأخبراه أنهما مندوبان من إحدى السلطات وقالا له إن المشير عبد الحكيم عامر يعلم أن لك شعبية ومحبة في قلوب الناس وأنه يطلب منك أن تحل دم سيد قطب ومن معه ويريدان أن يسمعا هذه الفتوي في الجمعة القادمة، وقبل أن ينصرفا قد ذكرا له عبارة ممزوجة بالوعد والوعيد.. فيها على حد قوله العسل والحنظل قالا إن أطعت الأوامر فتحت أمامك أبواب الترقيات والبعثات وإلا فأنت تعلم أن السجون تتلقي كل يوم المئات.

لكن الشيخ رفض أن يبيع أخرته بدنيا غيره.. وفي يوم الخميس 14 ابريل سنة 1966 تم اقتحام منزله واعتقاله.

كان حواري مع الشيخ عبد الحميد كشك ضمن سلسلة من الحوارات قمت بها مع رموز التيار الإسلامي، ولأني كنت أري أن الحوار الصحفي قد فقد قيمته كفن فقد كنت أبذل قصارى جهدي من أجل رد الاعتبار اليه.

كانت حواراتي تقوم على الاتهام.. وسألت الشيخ عبد الحميد كشك: هناك اتهام موجه إلي فضيلتك بأنك لا تلتزم بآداب الإسلام في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأن أسلوبك يقوم على الهجوم والسب.

وأجاب: من يقول هذا لا يعرف في الاسلام شيئاً.. وهو لم يسمعني.. وعندما كنت في المعتقل وأحد من كبار الدعاة قال لي إن من يراك لا يمكن أن يصدق أنك فلان.. لأن كلك وداعة على عكس ما هو شائع عنك من إنك كلك أنياب ومخالب.. قلت له: هل سمعتني؟ قال: لا.. قلت له: طيب هل سمعتني مسجلا؟.. قال: لا.. قلت: تبقي شاهد زور.. كيف حكمت؟ قال: سمعت عنك.. قلت له: هذه هي التهمة التي جئنا بها الي هنا!

وأنا أؤكد لك أن من قال هذا لم يسمعني ولم يرني.. ولم يُصلِّ معي.. لماذا؟ .. لأن الخطبة كانت ساعة ونصف الساعة غير الدرس.. طيب رايح اشتم قد إيه.. دا الإنسان علشان يشتم ساعة ونصف يبقي متربي تربية واطية قوي..

اعطني عقلك من يستطيع أن يشتم ساعة ونصفا كل أسبوع ؟.. دا يبقي متخرج من كلية الشتيمة..

دا ربنا حتى عرفوه بالعقل.. الإمام لما قال فخر السقف من تحتهم.. رد عليه قائل: من فوقهم.. قال والله مش واخد بالي فقال له إذا لم تكن حافظا هندس

وهنا ضحك الشيخ كشك واستطرد:

أعطني تصورك أني أطلع المنبر من أول ما أقول الحمد لله إلي أن أنتهي شتيمة يا ولا كذا .. وأولاد كذا.. وكل أسبوع.. وأنا اخطب منذ 35 عاما.

ولكن لكل مقام مقال ربنا لما قال “فمثله كمثل الكلب” .. بيشتم؟!.. “كمثل الحمار يحمل أسفارا” .. بيشتم ؟!.. ” لم يخلقوا ذبابا” .. بيشتم .. ” كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً”

أشهر الدعاة

لقد أتى حين من الدهر كان فيه الشيخ كشك هو أشهر وأهم داعية في الوطن العربي، ففي الوقت الذي كانت فيه شهرة الشيخ أحمد المحلاوي لا تتعدى الإسكندرية، وشهرة الشيخ يوسف البدري لا تتجاوز حدود القاهرة وربما ضاحية المعادي، وصل الشيخ كشك عبر ألبومات الكاسيت الي العالم كله، والي الكفور والنجوع، بخطبه التي كانت مدعومة بحنجرته القوية، وطريقته الفريدة في الخطابة، وكان يوم الجمعة عيد لمن يتمكنون من الصلاة خلفه.. والد أحد الزملاء قال إنه كان في فترة خطوبته يخرج مع خطيبته من محافظة مجاورة للقاهرة يصلي وراء الشيخ كشك ويعود، وكانت خطبته بالفصحي جادة وحماسية، والدرس بالعامية يروي فيه عدداَ من النكات، فكان يضحك الناس ويبكيهم، وهذه قدرة لم تؤت إلا لأولي العزم من البشر!

ولأن الرجل كان يحمل على الفساد، والانحلال، والسلطة، فقد تعرض للاعتقال كثيرا، بدأ ذلك في عهد عبد الناصر، الذي أرسل له من يطلبون منه أن يكفر سيد قطب من فوق المنبر، وفي خطبة الجمعة، فإذا بالخطبة تتحول الي إشادة به، وإذا بفرعون وجنوده يصابون بالجنون وصدرت الأوامر باعتقال الرجل، ليقضي في سجنه سنين عددا!

الذبح من المنبع

ومات الرئيس السادات والشيخ عبد الحميد كشك في السجن، فقد شملته قرارات سبتمبر الشهيرة، أما عهد الرئيس مبارك، فقد اتبع معه سياسة الذبح من المنبع، حيث منعه من الخطابة، وظل ممنوعا إلى ان مات رحمه الله وهو ساجدا، وفي يوم جمعة كان قد توضأ للصلاة، ووقف في بيته ليصلي ركعتين، قبل أن يذهب للمسجد ليصلي مأموما بطبيعة الحال.. أي واعظ هذا الذي يجد فارس المنابر أمامه ثم يجرؤ أن يخطب فيه. لقد طال الشيخ في سجوده، لينتبه أهل بيته إلى أن العناية الإلهية قد أدركته، فلقي ربه وهو أقرب ما يكون منه.

أحب الناس الشيخ كشك فحولوه إلى بطل شعبي، وأحاطوه بكثير من الأساطير، فمن قائل أنهم كانوا كلما اعتقلوه فوجئوا به يخطب الجمعة في مسجده، ومن قائل أنهم قرروا أن يمسكوا به ذات مرة فأمسكوا الهواء، ومن قائل أنه كان عندما يعتقل يهتف: أين الزنزانة رقم واحد؟ باعتبار أنها أكثر الزنازين قسوة، وهي تليق برجل في شجاعته وشموخه.. وكان هذا القول وذاك تسمعه في قري أسوان، وقري الدلتا في وقت واحد.. هكذا وجدان البسطاء عندما يحبون، وقد كان الشيخ كشك هو واحد من هؤلاء البسطاء الذين انطلقوا يهزون عروش المستبدين الأقوياء.

طلب منه وزير الأوقاف “الأحمدي أبو النور” أن يتعهد له بأن يلتزم في دعوته بالموعظة الحسنة مقابل عودته إلى منبره ورفض، لان هذا إقرار منه بأنه لم يكن ملتزما بذلك فيما مضي، ومعناه أيضا أن الشيخ خضع للسلطة. وكان الدكتور “أبو النور” وزير الأوقاف قد التقي بالشيخ احمد المحلاوي في الإسكندرية، ونشرت الصحف صورة اللقاء وكيف أن الوزير أخذ تعهدا علي الشيخ بأن يلتزم بالتعاليم الإسلامية في خطبه، وعليه قرر عودته للخطابة من جديد، بدا الرجل في الصورة خاضعا ذليلا او هكذا تصورته.. إنها سياسة قهر الرجال التي يلجأ اليها المستبدون في مواجهة خصومهم، يهدفون منها تأكيد قوتهم وضعف الآخرين.

كان الشيخ المحلاوي يعاني الهوان، ومن يهن يسهل الهوان عليه، فقد عول كثيرا على مريديه، وفي أزمته مع وزارة الأوقاف وعندما قررت نقله باعتباره موظفا بها الي مسجد غير مسجد القائد ابراهيم، احتشد حوله أنصاره وطالبوه بأن يقدم استقالته على أن يدفع كل مصل للجمعة خلفه جنيها في الأسبوع، تعويضا له عن راتبه الذي كان جنيهات معدودة. وعندما اعتقل كان يظن أن هؤلاء سيحطمون السجن ليخرجوه منه، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وتحطمت معنوياته، على الرغم من أن قاتل الرئيس السادات اعترف بأن من ضمن دوافعه الي ذلك أن السادات أهان عالما جليلا، عندما قال عن المحلاوي “انه مرمي في السجن زي الكلب”.

شيخ الفقراء

عندما أطلقت الكاتبة المرموقة سناء البيسي علي الراحل الشيح عبد الحميد كشك “شيخ الفقراء”، لم تكن تسرف في مدحه فقد جاءته الدنيا له طبق من ذهب فقال لها غري غيري، فقد كان الشيخ فقيرا مهتما بالفقراء، فأسس في مسجده “عين الحياة” بمنطقة حدائق القبة بعض المشروعات التي تهتم بهم، مثل مستوصف طبي، الكشف فيه بسعر رمزي.، في إطار سعيه لأن يكون المسجد مؤسسة، ولم يكد يتم تعيينه إماما وخطيبا له، وإلا صار من اشهر مساجد القاهرة.

كان الشيخ كشك مهتما بالدور الاجتماعي للمسجد، بينما كان الشيخ أحمد المحلاوي مهتما بالدور السياسي لمسجد “القائد إبراهيم” بالإسكندرية، فكان يدعو رموز المعارضة، مثل الدكتور حلمي مراد ليلقوا خطبا فيه. وكان المحلاوي يسعي للزعامة السياسية، بينما الأول كان مثالاً لرجل الدين الذي لا تشغله زخارف الحياة، وعندما سعى الإخوان المسلمين لترشيحه علي رأس قائمة ما سمي وقتها بالتحالف الإسلامي، وكان يضم بجانب الجماعة حزبي العمل والأحرار، وذلك على مستوي شرق القاهرة، رفض بشدة، وعندما سألته عن أسباب ذلك قال ليس لدى العالم وقت يضيعه في عمل كهذا.

غضب السادات

وفي شهر سبتمبر 1981 أيقظ السادات بقرارات الاعتقالات الشهيرة الشباب من أحلامهم، وكانت حركة جامعة، طالت كل ألوان الطيف السياسي والديني في مصر، فقد شملت المرشد العام للإخوان والبابا شنودة، وفؤاد سراج الدين الزعيم الوفدي المعروف، والكاتب محمد حسنين هيكل، ثم أعقب هذا بخطبة، هي التي قال فيها ان “المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب”، وكانت سقطة لا تغتفر، لكنه كان غاضباً، وكان سر الغضب لا يعرفه كثيرون.

جزء من غضب السادات علي معارضيه أنهم كانوا يهاجمون زوجته. وكان هذا أحد أخطاء المعارضة في هذه المرحلة، ولقد كان هناك إحساس لدي المعارضة وشبابها أن جيهان هي التي تحكم مصر، وأنها سبب كل البلاء الذي حل بالبلاد من جراء سياسات السادات. وبعد رحيله سئل الكاتب الكبير مصطفي أمين رحمه الله عن دورها في الحكم فقال لقد كانت صمام أمان.

الرئيس السادات كان يبدو حينا أنه رجل أبهرته أضواء العالم الغربي، وأن وجدانه ارتبط به، في حين أنه في قرارة نفسه كان فلاحا كأي فلاح مصري، أو كأي رجل عربي، يمكن أن يتسامح في أي شيء إلا أن يقترب أحد من (أهل بيته) ولهذا غضب علي المحلاوي، وقال أنه “مرمي في السجن زي الكلب”، ونسي الناس كل ما جاء في الخطاب علي طوله، وأصبحت هذه السقطة هي عنوانه ولا شيء بعدها، علي الرغم من أنه هاجم فيه الجميع، وسخر من هيكل “الصحفي صديق الرؤساء”.. ” دا حتى بيفطر في رمضان”!

يقال: “وما آفة الأخبار إلا رواتها”، وقد كانت جيهان السادات يطلق عليها إعلاميا “سيدة مصر الأولى” ونقلوا للسادات ـأن المحلاوي يقول إنها ” سيئة مصر الأولي”، وعقب خروجه من السجن نفي المحلاوي في مقابلة صحفية مع جريدة ” النور” أن يكون قد قال ذلك.

كشك والنميري

في خطابه هذا حمل السادات علي الشيخ عبد الحميد كشك، لكن بدرجة أخف، استعان بخياله ليبرر قرار اعتقاله، فقال إن الرئيس جعفر نميري اشتكي له من أن الشيخ كشك ألب عليه الشارع السوداني، فقد تم الإعلان عن أنه سيلقي محاضرة في السودان، ولما لم يأت، أذيع ان الحكومة السودانية منعته من دخول البلاد، فتظاهرت الجماهير هناك وطالبت بإسقاط الرئيس!

السادات كان يمتلك خيالا خصبا. وعندما التقيت بالشيخ كشك وطرحت عليه ما قاله الرئيس في خطابه، قال إن الراحل أحمد يحيى زاره في السجن وعتب عليه بشأن هذه الوشاية من صديقه النميري.

يحيى هو صاحب ” المكتب المصري الحديث”، الذي كان – ولا يزال – هو ناشر كتب الشيخ تحت عنوان ” مكتبة الشيخ كشك الإسلامية”. وكانت واحدة من أهم دور النشر في مصر.. كانت، وليست هي وحدها التي كانت. فمسجد القائد إبراهيم كان، ومسجد عين الحياة كان، والرئيس نميري كان، والرئيس السادات كان، والشيخ المحلاوي كان، والشيخ كشك كان.. نحن في زمن عمرو خالد وخليفته “مودي مسعود”!

أحمد يحيى فاجأ الشيخ كشك بأنه ناقش الأمر مع جعفر النميري، وكانت المفاجأة انه لم يحدث أن اشتكي للسادات، لسبب بسيط وهو أن الشيخ كشك لم يدع ليحاضر في السودان، وبالتالي فان الحكومة السودانية لم تمنعه من الدخول، ولم يحتج الشعب السوداني علي قرار لم يصدر.

ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي، فقد تلقى الشيخ كشك دعوة لحضور مؤتمر يخطب فيه السادات، ولم يهتم بالاطلاع على الدعوة، وعندما فتحها كان المؤتمر قد انعقد وانتهى، وهو الذي شهد المواجهة العلنية بين الرئيس ومرشد الإخوان عمر التلمساني، قال المرشد للرئيس شكوتك لله، فقال له اسحب دعواك يا عمر، وبقيت الحكاية معروفة.

حسبما نقل الشيخ عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر للشيخ كشك، أن السادات كان قبل المؤتمر يسأل كثيرا: هل وصل الشيخ كشك؟، وعندما تكون الإجابة هي النفي يركبه العصبي، ربما كان يظن أنه تعالي على دعوته، ولم يكن حضوره سيمنع من اعتقاله في سبتمبر الأسود، فقد حضر التلمساني واعتقل.

الهجوم على نيللي

في التحقيقات لم يجدوا اتهامات يواجهوا بها الشيخ الجليل فسألوه: لماذا تهاجم القذافي؟، وكان إعلام الرئيس السادات مسخرا للهجوم علي الزعيم الليبي، ووصل الحال الي انه كان يتم رسمه بشكل كاريكاتوري في صحيفة “أخبار اليوم” بشكل مبتذل ومسف.

قال الشيخ كشك كلاما قريبا من هذا، فقالوا له: ولماذا تهاجم الفنانة نيللي؟ والتي كانت في كل عام تقدم “فوازير رمضان”.

هناك اتهامات أخري واجهته بها في وانا أحاوره. وقد سألت الشيخ صلاح أبو إسماعيل عنه ذات مرة فأغضبني عندما قال إن أسلوبه سوقي. ربما كان اختلاف المنهجين راجع الي أن كشك هو واعظ الفقراء منهم واليهم، في حين كان أبو إسماعيل يخاطب وجهاء القوم.. منهم واليهم.

عقب خروجه من المعتقل بعد اغتيال الرئيس السادات تم منعه من الخطابة، لتخسر الدعوة الإسلامية إماما جسورا، وخطيبا مفوها، وعالما جليلا.

بعد سنوات من منعه نشرت الصحف خبر عودته، ولم يعد، ففي يوم الجمعة المضروب وبينما كان يستعد للخروج من بيته متوجها لمسجد “عين الحياة” بشارع مصر والسودان، زاره مسؤول بوزارة الأوقاف، وصفه لي الشيخ فعرفته قال إنه عندما يخطب في المساجد تظن أنك أمام أسد هصور. فلم أفكر كثيرا لاقف على أنه الشيخ عبد الواحد محمد أحمد وكيل أول الوزارة رحمة الله. كنت تستمع له فيقشعر بدنك، ولهذا فقد استخدمته وزارة الأوقاف ليلقي الخطبة الأولى في أي مسجد يقال خطيبه “المعارض” ليمتص غضب الناس.

مرة واحدة فشل في مهمته، وذلك عندما ذهب لمسجد صلاح الدين بالمنيل ليخطب الجمعة عقب منع الشيخ عبد الرشيد صقر رحمه الله من الخطابة، وكان المنع في شكل ترقية، ولم يكد ينتهي من الصلاة حتي احتشد حوله مريدو الشيخ: أين الشيخ عبد الرشيد صقر؟.. فرد: تمت ترقيته. ويبدو أنهم احتدوا عليه، فلم يجد خلاصا إلا أن يسقط مغشيا عليه.

عندما تقرر عودة الشيخ كشك لمنبره، كان الذي أخبره بالقرار هو الشيخ عبد الواحد محمد أحمد، وقال له إنه سيصطحبه في أول جمعة من منزله ويصعد به المنبر من باب إكرام العلماء، لكن ها هو يأتي ولكن لا ليصطحب الشيخ، ولكن ليخبره بقرار استمرار المنع، وحجته في ذلك هي تفويت الفرصة على من يريدون استغلال الأحداث ويندسوا وسط المصلين ليقوموا عقب الصلاة بمظاهرة ضد الحكومة.

سأله الشيخ كشك عن هوية هؤلاء المندسين: هل هم يمنيون أم يساريون. ورد: من اليساريين. فعقب الشيخ كشك: طول عمر المسجد لم تخرج منه مظاهرة إلا عندما جري اعتقالي في سبتمبر 1981.

الاعتراض على العودة

يبدو أن هناك جهات في الدولة اعترضت على قرار عودة الشيخ كشك، فلم يجد الوزير المختص إلا ان يتراجع، وحتى الآن لم أحط علما بتفاصيل ذلك، وقد التقيت بهذا الوزير أكثر من مرة ولم أسأله، لعلمي أنه لن يقول الحقيقة. إذن نجنبه زيادة سيئاته، يكفيه السيئات التي أحاطت به من جراء استمرار منع الشيخ من الخطابة في عهده، ولم يبذل جهدا لإلغاء قرار المنع.

رسول وزارة الأوقاف اشترط على الرجل أن يلتقي وزير الأوقاف كشرط للعودة.. أنها سياسة إذلال النفوس، وكسر الإرادات الصلبة، ورفض: أعود بداية ثم التقي الوزير. وأصر كل على موقفه وظل الشيخ عبد الحميد كشك أهم داعية عرفته مصر ممنوعا من الخطابة، إلى أن وافته المنية في يوم الجمعة 27 رجب عام 1417 هـ، 6 ديسمبر سنة 1996 ميلادية، عن عمر يناهز الثالثة والستين.

كنت أنظر الي شرط الرجل للعودة على أنه شكلي لا يقدم ولا يؤخر، ولهذا فقد واجهته بأنه يضع العقبات أمام عودته، لأنه استراح لهذا الوضع، ليكون بالتالي بعيدا عن المشاكل.، فكان رده: لقد كنت ملكا متوجا على عرش الخطابة، فحتي لو حسبتها من باب الشهرة فكيف لي أن ارفض العودة؟ ثم قال مبتسما: ” وهو حد لاقي شهرة اليومين دول”.

كان القوم في وزارة الأوقاف يريدون تقديم الشيخ الجليل على انه جاء ليطلب رضاهم حتى يعود، ألا وأنهم قد وافقوا فان هذا دليل علي أنه قدم تنازلات، وكان يرفض فالعودة تكون أولا وبدون قيد او شرط.

رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك الرجل الذي قال: لا، في وجه من قالوا نعم. والذي جاءته الدنيا زاحفة، خاضعة راكعة.. فقال لها غري غيري.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه