الشعوب تفضي لما قدمت

 

 

سؤال طرحه الأديب عباس محمود العقاد «هل السياسيون منافقون؟»، وأعقب سؤاله بهذه الإجابة «نصيبهم من النفاق على قدر نصيب الشعوب التي يحكمونها من الجهل والغفلة وإيثار المصلحة العاجلة وقلَّة الخبرة بمعترك السياسة الشعبية، وأن النفاق لا يمتنع في الشعوب بمجرد اليقظة والارتقاء. فإنها قد تُبتلى بالمنافقين والمخاتلين، وقد تُمتحَن بالمساومات والوعود. ولكن الفرق بينها وبين شعب غافل لم يختبر ضروب السياسة وأفانين الدعاية أن النفاق فيها لا يطول، فلا يلبث أن يؤول بأصحابه إلى شرِّ مآل، وأنه في الشعب الغافل الغرير يطول ويتمادى، ويكفل لأصحابه الغلبة على ذوي الصدق والاستقامة من الدعاة والحكام».

إذا فالعقاد عمم صفة الكذب على كل السياسيين ولكنه فرق بين تأثير كذبهم على الشعوب الجاهلة الغافلة التي تسعى للمصلحة العاجلة، وتأثير كذبهم على الشعوب اليقظة، فشر رجال السياسة يطال الجميع ولكن تأثيره يصبح طويل المدى على الشعوب الغافلة وقصير المدى على الشعوب اليقظة والتي غالبا ما يلجأ السياسيون فيها إلى ألاعيب أكثر براعة من سياسيي الشعوب الغافلة.

قسم «العقاد» السياسيين إلى صنوف حسب طبيعة اشتغالهم بالسياسة فمنهم الدبلوماسيين ومنهم السياسي البولوتيكي مثل رجال الأحزاب والصحفيين والوزراء وما شابه، ومنهم رجالات الدولة المحترفين، وناقش أساليب كل صنف منهم وكانت تختلف عند كل فرقة إلا أن نهاية مطافها يصل لمحطة الكذب والخداع وخاصة لدى القطاع الذي يتعلق عمله بالجماهير ويحتاج دائما للإقناع فإذا كان الإقناع يحوجه إلى المساومة والخداع، فلا بدَ له من المساومة والخداع!

وعود الانتخابات

غالبا ما يتحدد التصويت في أى انتخابات طبقا للوعود الانتخابية وقدرة صاحبها على إقناع الكتلة التصويتية بها باستخدام كل الوسائل التي تكون المعلومات الحقيقية عن المرشح آخرها ويسبقها الكلمات المعسولة والمغريات وربما بعض الامتيازات الساذجة مثل الهدايا والنقود أو السلع الغذائية، وبالطبع تكون هذه الوسائل أكثر تأثيرا في الشعوب الأقل وعيا، إلا أنه وكما قال العقاد لم تسلم الشعوب الأكثر وعيا من الوعود الكاذبة للساسة، وفي بلدان الشعوب الواعية كان للتكنولوجيا دور مهم في رصد أكاذيب الحكام، ففي كندا ظهر موقع إلكتروني اسمه «مؤشر ترودو» وكانت مهمته تتبع وعود رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وكشف الموقع عن أن رئيس الوزراء الكندي لم يلتزم إلا بثلاثة وعود فقط من أصل 184 وعدا انتخابي أطلقهم أثناء الفترة الانتخابية

كما كشف موقع مشابه في أمريكا عن أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما التزم فقط بـ 45 في المائة من وعوده الانتخابية وساوم على 25 في المائة ونكث بـ 22 في المائة من وعوده وماطل في 1 في المائة، وحتى تاريخ إعلان هذه النتائج كان «أوباما» يعمل على 7 في المائة من وعوده.

شعوب ذات إرادة

المنطق يشير إلى أن اللحظة التي يكتشف الجمهور عدم قدرة الحاكم أو النائب أو المسؤول على تنفيذه وعوده الانتخابية، تكون لحظة نهاية هذا المسؤول أو هذا النظام مهما بلغ عدد أعناق الجماهير التي حملته لحظة قفزة على المنصب، فالأعناق التي حملت الوعود والأماني هي نفس الأعناق التي ستلقي بصاحبها على الأرض عندما تكتشف أنها أكاذيب، مثلما حدث في إسبانيا عندما قاد «ماريانو راخوي براي» السياسي الإسباني حركة المعارضة أمام الحزب الاشتراكي الإسباني، أطلق وعوده الوردية للشعب الإسباني بحل أزمتهم الاقتصادية وخلق أكثر من ثلاثة ملايين فرصة عمل، ووعدهم أيضا بإبعاد المصالح الحزبية السياسية من أجل المصالح العليا للبلاد، ووصل إلى منصب رئيس الحكومة الإسبانية عام2011 بعد الفوز الكبير الذي حققه حزبه (الحزب الشعبي) في الانتخابات، ودون الدخول في التفاصيل ظل «ماريانو» في منصبه في حماية وعوده التي انتظرها الشعب سنوات لتنفيذها ولما فشل تم عزله في يونيو 2018 بعد حجب الثقة عن حكومته.

أكاذيب بلا نهاية

ورغم أن نظام الحكم في مصر لم يعرف المعنى الكامل للانتخابات الرئاسية إلا في الفترة الأخيرة والتي كانت مجرد تطبيق شكلي لتداول السلطة، إلا أن وعود الحكام لم تتوقف طوال الوقت ليس بهدف الحصول على أصوات الناخبين بقدر ما كان الهدف استكمال الجانب الشكلي لعلاقة الحاكم بشعبه والظاهرة بمظهر مثالي لأسباب منها ما هو خارجي يتعلق بالعلاقة مع الدول الكبرى وضمان حمايتها ومساعدتها ومباركتها للحكم اللاديمقراطي ومنها ماهو داخلي لمنع أى تحركات مناهضة للحكم ونشر ثقافة زائفة عن الرضا  الجماهيري على النظام الحاكم.

ظل جمال عبد الناصر يتشدق بالاشتراكية والمساواة والعدل وبتلبية مطالب الجماهير الشعبية، وتكشف بعد ذلك أن أسس تراكم الثروة لدي القليل من الأسر المصرية قد حدث في هذه الفترة، وهي أيضا الفترة التي شهدت أكبر تفاوت طبقي في ظل شعار تحالف قوى الشعب العاملة، أما العدل فقد كان مبررا للتخلص من المعارضين تحت مظلة القضاء العادل، ولم يتوقف التأييد الشعبي لهذه الشعارات إلا عندما مات جمال عبد لناصر وقرر السادات تغيير مظهر لعبة الحكم وبدأ دولة سيادة القانون والعلم والإيمان، وهي الدولة التي بدأت بمشهد حرق شرائط التجسس على المواطنين وضرب أول معول في هدم سجن مصر بيد السادات والقضاء على مراكز القوة، وما أن استقر الحكم حتى امتلأت السجون بالمعارضين، وانهار العلم تحت أقدام فساد الانفتاح الاقتصادي، وبدأت الخطوات الأولى نحو اتفاقيات التنازل عن سيادة أرض الوطن لحساب إسرائيل، وتحول الإيمان إلى أداة متطرفة يوجهها الحاكم لكسر الوحدة الوطنية والسيطرة على الشعب، وتطورت الأدوات المتطرفة وزادت شراستها حتى طالت نيرانها سيدها وأحرقته وسط جيشه في سبتمبر (أيلول) 1981. وظل الشعب خارج معادلة التغيير التي كانت تتم بشكل فوقي وشكلي بعيدا عن الشعب، واستمر النظام قائما في شكل جديد تحت قيادة حسني مبارك الذي رفع شعار دولة القانون الذي في ظله غرقت البلاد 30 عاما في أمواج ودوامات الفساد والفوضى والانهيار الاقتصادي وزادت حدة التفاوت الطبقي.

افتقاد الخبرة

وعندما خرج الشعب عام 2011 منفعلا يطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية لم يكن يحمل الخبرة الكافية لخلق نظام شعبي جديد بديل للنظام القائم والمستمر منذ عام 1952 حتى 2011، وهو ما جعله فريسة سهلة لمؤامرات تحالف النظام والعسكر والتي من دون الدخول في تفاصيلها انتهت بحكم الجنرال الذي جاء محمولا على أعناق جماهير مخدوعة بعد تصدير صورة ذهنية عن خلافات وصراعات بين طوائف الشعب يمكن أن تحرق الوطن ولا نجاة منها إلا بحكم الجنرال وسيطرة العسكر، وربما يتصور أحد أنه بمجرد تكشف زيف وعود الجنرال يمكن للأعناق التي حملته أن تلقيه مثلما حدث مع «ماريانو راخوي براي» في إسبانيا إلا أن الأمر هنا يختلف، كما قال عباس العقاد، باختلاف نصيب الشعوب التي يحكمونها من الجهل والغفلة وإيثار المصلحة العاجلة وقلَّة الخبرة بمعترك السياسة الشعبية، عن خبرة الشعوب اليقظة مثل الشعب الإسباني.

المعارضون في إسبانيا لم يشمتوا في الذين رفعوا «ماريانو» على الأعناق ثم اكتشفوا كذبه ولكنهم تحالفوا وأسقطوه، هذا هو الفرق بين شعوب محكومة بالجهل والغفلة وإيثار المصلحة العاجلة، وشعب يقظ، ولهذا فإنه من المنطقي أن يظل النظام الحاكم الفاشي حريصا على إثارة الفرقة والاحتراب بين طوائف الشعب معتمدا على أدوات محترفي السياسة من كذب ومناورات وخداع، وبث الرعب والتخويف وأساطير وحكايات البطش المتعمدة، من أجل وأد أى إفراز لوعي شعبي جديد ونخبة جديدة تقودها الإرادة الشعبية وليست الخبرات السياسية الفاسدة، وهو أمر حتمي بحكم قواعد الطبيعة والمنطق، وهذا الأمل قد يراه البعض بعيدا ونراه قريبا وقريبا جدا فما أثرى الخبرات التي اكتسبناها من آلام السنوات السابقة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه