السيسي وتواضروس.. وإشعال الفتنة الطائفية

تعاملت قيادة الكنيسة مع السيسي معاملة التاجر الذي يسعى لتحقيق أقصى مكاسب بأقل التكاليف ولذلك طلب الأنبا يؤأنس المبتعث رسميا إلى نيوجرسي تحريك حافلتين فقط لاستقبال السيسي.

لا نعرف على وجه اليقين المكاسب التي حقهها السيسي من زيارته للولايات المتحدة ومشاركته في أعمال القمة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة سواء لشخصه أو لنظام حكمه..
ولا نعرف على وجه اليقين نتائج اجتماع الدقائق الخمس مع الرئيس الأمريكي ترمب، والتي كان السيسي يؤمل أن يخرج منها بموافقة أمريكية على تغيير الدستور، وضمان بقائه في السلطة لدورة أو دورات مقبلة..
لكننا نعلم يقينا الآن أن السيسي وحليفه البابا تواضروس صنعا فتنة طائفية كبرى سيدفع الوطن كله ثمنها خلال الفترة المقبلة..
وذلك بوضع الكنيسة وقيادتها الحالية ومن شارك في حشدها في مواجهة مباشرة مع بقية الشعب المصري الذي يتوجع ألمًا كل يوم من السيسي وسياساته التي أفقرت مصر وجوعت الشعب، وباعت الأرض وقتلت المصريين، وأجهزت على حرية التعبير والإعلام، وسدت المجال العام تماما، وأظهرت قيادة الكنيسة بتصرفها الأرعن نفسها كشريك أساسي للسيسي في هذه الجرائم بحق الشعب بمسلميه ومسيحييه.

الروح الطائفية

الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، صحيح أن الأحداث الطائفية لم تتوقف في مصر، لكنها ظلت دوما أحداثا متفرقة، وتحت السيطرة ، سواء عبر الجهود الشعبية المحلية، أو من خلال التعامل الحكومي..
لكن الحشد الطائفي الذي رتبته قيادة الكنيسة بالاتفاق مع نظام السيسي لاستقباله في نيويورك، أيقظ الروح الطائفية في طول البلاد وعرضها، والتي نجحت ثورة يناير من قبل في إعادتها إلى أدنى مستوى بعد مشاركة بعض الشباب القبطي في الثورة، والكيانات الثورية، والأحزاب السياسية بعد الثورة..
ولعلنا لا ننسى كيف حمى المسلمون الكنائس أثناء أيام الانقلات الأمني فلم تتعرض وقتها لأذى..
وحين وقعت حادثة كنيسة أطفيح هرعت القيادات الدينية والسياسية الإسلامية قبل غيرها لوأد تلك الفتنة، وتمكنت من تسليم مقر الكنيسة للهيئة الهندسية لإعادة بنائها، وقد كنت بنفسي شاهدا على تلك الحالة، إذ لم يعد الوفد الذي شاركت فيه إلا في وقت متأخر من الليل بعد إنهاء الأزمة.

“علشان خاطر الكنيسة”!

تعاملت قيادة الكنيسة مع السيسي معاملة التاجر الذي يسعى لتحقيق أقصى مكاسب بأقل التكاليف ولذلك طلب الأنبا يؤأنس  أسقف أسيوط المبتعث رسميا إلى نيوجرسي تحريك حافلتين فقط لاستقبال السيسي..
ولذلك ظهرت الأعداد قليلة وقاصرة على المسيحيين فقط، وبرر قادة الكنيسة هذا المطلب من المسيحيين بأنه “علشان خاطر ربنا”، و”علشان خاطر الكنيسة”، و”علشان خاطر أهلهم في مصر”..
دعك من حكاية “خاطر ربنا” التي تبدو مجرد ابتزاز للعواطف الدينية، ودعك من حكاية “علشان خاطر أهلكم في مصر” الذين تعرضوا في عهد السيسي لاعتداءات فاقت ما تعرضوا له خلال 30 عاما من قبل، ولكن المهم “علشان خاطر الكنيسة”..
وهم يتحدثون هنا عن الكنيسة بوصفها المظلة الروحية للأقباط والممثلة الرسمية لهم، لكن الحقيقة أنهم لا يتحدثون عن الكنيسة ذاتها بل عن قيادتها الحالية التي تورطت مبكرا مع السيسي ومع الثورة المضادة، وأصبحت ترى مصيرها مرتبطا بمصير السيسي نفسه، ولذلك فهي تدافع عنه حتى النهاية مهما حدث للمسيحيين أنفسهم في عهده من سوء.

أزمة الكنيسة

تشعر الكنيسة بأزمتين كبيرتين وترى أن ارتباطها بالسيسي سيساعدها في هاتين الأزمتين، الأولى هي حالة العداء التي صنعتها بنفسها مع التيار الإسلامي وأنصار الشرعية عموما عبر دعمها اللامحدود (أي الكنيسة) لانقلاب السيسي وللمجازر التي ارتكبها بحق مناهضيه..
والأزمة الثانية داخلية تتمثل في التصدعات التي ظهرت مؤخرا داخل الكنيسة، وانشقاق بعض الرهبان والأساقفة، الذين يصنف بعضهم ضمن تيار البابا الراحل شنودة الثالث.. 
وبعضهم من تيار الأنبا الراحل متى المسكين، وهذه الانقسامات الخطيرة تهدد وحدة الكنيسة، وتهدد القيادة الحالية، وتريد هذه القيادة دعم نظام السيسي لها في مواجهة هذا التمرد، كما أنها تدرك أنها لو قصرت في دعم السيسي فإنه سيستخدم هذا التمرد، وسيدعمه في مواجهتها.

من ناحيته فإن السيسي الذي (للمفارقة) انتقد الطائفية في كلمته بالأمم المتحدة أكثر من مرة، وتحدث عن الحكم الرشيد أدرك مبكرا ومن خلال أجهزة معلوماته أنه سيبدو عاريا من أي حشود شعبية هذه المرة نتيجة انفضاض أنصاره عنه سواء من رجال الأعمال الذين كانوا يستأجرون طائرات ويصطحبون وفودا لمؤازرته، أو ممن سبق لهم دعمه والمشاركة في استقباله في المرات السابقة من المصريين المقيمين في الولايات المتحدة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين..
وبذلك سيجد نفسه وحيدا في مواجهة مظاهرات أنصار الشرعية المقيمين في الولايات المتحدة، ولم يجد سوى الكنيسة لترتيب حشد استقباله مقابل بعض الوعود التي ستظهر نتائجها تباعا، لكن النتيجة الأكبر والأخطر التي ظهرت هي صناعة الفتنة الطائفية التي سيكتوي بها الوطن كله.

من يمثل الأقباط؟

في منتصف التسعينات صدر للبرلماني القبطي السابق جمال أسعد عبد الملاك كتاب “من يمثل الأقباط.. الدولة أم البابا؟”..
وقد انتصر في كتابه لفكرة تمثيل الدولة وليس البابا للأقباط باعتبارهم جزء من النسيج الوطني المصري، وليسوا مجرد طائفة منعزلة..
وقد تعرض جمال أسعد وقتها لحرب واسعة من الكنيسة برئاسة البابا شنودة الذي كان قد حاز تماما على تمثيل الأقباط منفردا لدى الدولة..
ووجد أن كتاب جمال أسعد يحرمه ويحرم الكنيسة من هذه السلطة، وظل حريصا على التعامل مع الدولة بطريقة أهل الملل التي كانت موروثة عن العصور السابقة، إذ لكل ملة من يمثلها لدى الدولة بل إن البابا سحب لنفسه اختصاصات المجلس الملي الذي يضم مدنيين أقباطا.
واستمر الحال كذلك حتى ثورة 25 يناير التي وقفت عند أبواب الكنيسة فلم تدخلها، ولكنها أحدثت تغييرا في طريقة تعاطي الشباب المسيحي، الذي بدا أكثر ميلا لفكرة تمثيل الدولة وليس البابا للأقباط..
وذلك بعد أن شارك بعض هؤلاء الشباب في الثورة بالمخالفة لتعليمات البابا نفسه، وبعد مشاركتهم بعد ذلك في الكيانات الشبابية الثورية والأحزاب السياسية التي ظلوا يقاطعونها من قبل ( باستثناء من تأذن لهم الكنيسة وفقا لحسابات خاصة)..
لكن هذه الروح الثورية التغيييرية التي وصلت إلى بعض القطاعات الشبابية المسيحية تم وأدها، كما وئدت ثورة يناير نفسها، وعادت القبضة الحديدية لقيادة الكنيسة رغم تغيير قيادتها بعد وفاة البابا شنودة..
وعاد البابا الجديد للتمسك بالنظام الملي الذي يمثل هو فيه الأقباط لدى الدولة، ويتحدث باسمهم، فهو الذي يرشح الوزراء والمحافظين وكبار المسؤوليين المسيحيين، وهو الذي يطلب تراخيص بناء الكنائس، وهو الذي يطلب تمثيل الأقباط في مؤسسات الدولة المختلفة .. إلخ..
وهو الذي يتوسط لهذا أو ذاك، ومن عادة الحكم العسكري أنه يرتاح كثيرا لهذه الصيغة التي تيسر له التعامل مع قيادة واحدة يستطيع هو أن يلاعبها بطريقته، فيمنحها بعض الميزات حينا، ويمنعها عنها حينا، ويحرك الأحداث الطائفية ضدها حينا، ويظهر نفسه الحامي لها من جانب آخر، وهو ما ينطلي على القيادات الكنسية.

مقاطعة الأقباط

ربما يسهم في تلطيف أجواء الشحن الطائفي التي أنتجتها زيارة السيسي والحشد القبطي لاستقباله مقاطعة الكثير من الأقباط لذلك الحشد، وانتقادهم لموقف الكنيسة، وهو ما ظهر في تعليقات نشطاء وقيادات مدنية  قبطية في مصر وفي أمريكا..
بل إنهم سارعوا بفضح موقف الكنيسة من خلال تسريب فيديوهات الأساقفة المختصين بعملية التعبئة والحشد، والتي كانت محل تندر وسخرية على صفحات السوشيال ميديا..
ونظرا لأن جريمة البابا والأساقفة التابعين له كبيرة وخطيرة بحق الوطن، وتكرس المناخ الطائفي بل قد تشعل المزيد من الفتن الطائفية، فإن واجب المدنيين الأقباط هو التحرك سريعا لنزع فتيل هذه الفتنة، من خلال مواقف أكثر وضوحا في رفض موقف الكنيسة الداعم لنظام السيسي، والانحياز للصف الوطني الراغب في التغيير، ونزع ورقة تمثيل الأقباط أمام الدولة من يد الكنيسة والبابا، لتصبح في يد المدنيين الأقباط.

أخيرا لا ينبغي أن تفهم المطالبة بمحاكمة الأنبا تواضروس كمجرم حرب ومعه الأساقفة المعاونين له باعتبارهم داعمين لنظام قاتل -شأنه شأن السيسي وجنرالاته، وفقهاؤه وعلى رأسهم علي جمعة – دعوة طائفية ولكنها دعوة وطنية خالصة، وواجب الوطنيين الأقباط هو أن يشاركوا في هذه الدعوة إنقاذا للوطن، ومحوا لآثار جريمة نيوييورك.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه