السيسي.. بطل كليب “عندي ظروف”

(1)

يتعاون الشعب المصري مع السلطة في قضية مركزية تشغل عقول الجميع، وتستولي على كامل تركيزهم، ويتبارى الجميع في تقديم كل الجهد لتحقيق أكبر إنجاز في هذه هذه المهمة، وهي مهمة “البحث عن فضيحة”، فالنظام يريد أن يشغل الناس بأمور تصرفه عن الأجندة المطلوب منه تنفيذها في الداخل، وعلى الحدود أيضا، مهام الداخل تتصدرها الانتخابات المقبلة بكل ما ينتظرها من غموض ومفاجآت لا تبشر بخير، ومهام الخارج أكثر غموضا خاصة فيما يتعلق بصفقة القرن ومتطلباتها، وكذلك تعدد جبهات التحرك للنظام المصري بين الشرق والغرب والجنوب، حيث لم تعد سيناء وحدها هي الساحة التي يتفاعل معها النظام، فقد دخلت الصحراء الغربية إلى الملعب، كما دخلت الجبهة الجنوبية بقوة في الأيام الأخيرة بعد الإعلان عن فشل مفاوضات سد النهضة، واصطدام القاهرة بصخور الهضاب الحبشية وعدم القدرة على التحرك في سيولة الوضع الغائم مع السودان، وبالرغم من ذلك كله يخرج السيسي ليتحدث بفتور وتملص ولا مبالاة مريبة أثناء زيارته للجمبري في كفر الشيخ، عن عدم مسؤوليته عن مصير النيل وتداعيات فشل المفاوضات مع أديس أبابا بشأن سد النهضة: “عندكو رئيس البرلمان ورئيس الحكومة.. المياه مش بتاعتي.. بتاعتكو انتو.. أنا عندي ظروف…”

“يعني بالذمة مش مكسوف/ تبعد وتقولي عندي ظروف

بتنشغل عني وانت متهني/ مش مطمني/ مش بتفهمني

انت مستني تاني ايه مني/ دا انت بكرة تشوف

انت مبقتش زي زمان/ حتى قاسي وأناني كمان”

 

(2)

أغنية شيما في ختام الفقرة السابقة ليست “زائدة دودية”، لكنها “كبد الحقيقة”، فالأغنية التي اتفق عليها الناس والسلطة، استطاعت أن تحقق للسيسي مالم تحققه “فوبيا الإرهاب” من التقاء الشعب والسلطة على قلب رجل واحد: كده

وكانت السلطة قد حاولت مرارا وتكرارا تحقيق هذا الهدف الرئيسي، بالإضافة إلى أهداف فرعية لجذب حديث الناس بعيداً عن أجندة السياسة الساخنة، ودفعهم باتجاه الشد والجذب في قضايا لا تشتعل ولا تساعد على الاشتعال، ولا مانع فيها من الخوض في السياسة العامة الهادئة، وتفجير ضجة إعلامية تتعلق بالتحقيق مع سياسيين وكتاب وفنانين، وكذلك تفجير قضايا رياضية أو دينية او أخلاقية، أو شوفينية عن مصر والوطنية، ولما فشلت محاولات فتنة الشعراوي التي أثارتها فريدة الشوباشي، وتمثيلية التحقيق مع كاتبة “ملك اليمين”، وانطفأت سريعاً فرحة المصريين بالوصول إلى كاس العالم، وتعثرت حملة الهجوم على “شيرين آه ياليل” التي تآمرت مع الأعداء في تهديد مياه النيل، وساهمت في فشل مفاوضات سد النهضة، بات واضحا أن ظروف النظام بقت صعبة جدا خالص، بعد أن كانت صعبة فقط حسب اعترافات قديمة متكررة للسيسي نفسه، أكثرها سخونة وإثارة وارتباطاً بالمضمون الوطني لأغنية “شيما” الشهيرة، ما صرح به السيسي حرفيا نهاية العام الماضي خلال افتتاحه لعملية تطوير المجمع الطبى للقوات المسلحة بكوبرى القبة قائلا: ظروف الدولة صعبة.. وكل واحد يمد إيده، يحط حاجة!

(3)

تأملوا كلمات السيسي في ذلك التصريح: دولته عندها ظروف.. كل واحد يمد إيده.. ويحط حاجة..!!

أعتقد لو أن الرئاسة فكرت بأسلوب عصري ما بعد حداثي كما فعلت في مؤتمر الشباب بشرم الشيخ، وطلبت من المخرج الإثاري (لاحظ أن كلمة إثارة بنت عم الثورة) محمد جمال إخراج تصريحات السيسي السابقة بأسلوب الفيديو كليب، لما احتاج إلى تغيير أي شيء من أغنيته التي أثارت الضجة، وربما أضاف بعض المشاهد الأكثر ابتذالا للتعبير عن كلمات السيسي الإباحية من نوع (يمد/ يحط/ بكام/ منين؟)، وطبعاً معظمكم يتذكر جيدا أن السيسي تحدث كثيرا عن “الظروف”، بحيث لا يخلو تصريح أو خطاب تقريبا إلا ويردد ويؤكد ويكرر فيه قائلاً: أنا عندي ظروف”.. قالها في الداخل وقالها في الخارج، وشرحها مطولا في مؤتمره الصحفي المبتذل مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وتعلل كتاب كثيرون يطلبون الرحمة للنظام والصبر على السيسي، لأنه “عنده ظروف”،

(4)

خلاصة ما رأيته في أغنية شيما، أنها أغنية وطنية ثورية ذات وجهين، وهذا هو السبب في الهجوم الذي تعرضت له الأغنية من السلطة ومن الشعب معا، فالشعب تعامل معها باعتبارها دفاعا عن النظام، بحيث تكرر المغنية خطاب السيسي عن “الضرورة” وتتعلل بأن عندها ظروف حتى لا تؤدي واجبها المقدس تجاه الاستحقاق الشعبي!، وهذه قراءة خاطئة للأغنية التي يمكن قراءتها باعتبارها صوت للثورة، يتضمن نقداً واضحا للسيسي وخطاب الضرورة والظروف، فالمغنية ماعندهاش ظروف ولا حاجة، لكنها تنتقد الطرف “اللي مش مكسوف ومستمر في التهرب بحجة أن عنده ظروف”، وللتأكيد على هذا المعنى فإنها تضيف عبارات ثورية تحتمل التهديد والوعيد (انت مستني تاني إيه مني/ دا انت بكرة تشوف) ، كما تتضمن الإشارة إلى غياب العدل والاهتمام وغياب الثقة وغياب الحوار والتفاهم (بتنشغل عني وانت متهني/ مش مطمني/ مش بتفهمني)، كما تتضمن تصريحات بالغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهود القديمة (انت مبقتش زي زمان/ حتي قاسي وأناني كمان).

(5)

هذا يعني أن النظام اعتقل “شيما” خوفاً من انتباه الجماهير للمعاني الثورية في الأغنية، فتتحول الإثارة من النصف السفل للإنسان إلى النصف الأعلى، وحينها يمكن أن يصل الناس إلى الذروة بسهولة، فيشعر الناس بنشوة الثورة ويطالبون بإعادة التجربة مرات ومرات، كما يقول النص الأصلي لكلمات الأغنية الأجنبية ذائعة الصيت التي سرقها المخرج من فريقي “شيت كودز وكريس كروس أمستردام”، ولا أظن أن هذه السرقة المكشوفة تعبر عن كسل أو وضاعة من المخرج، لكنها حيلة ثورية أخرى تؤكد لنا أن صناع الأغنية من أهل الشر المعارضين، وأن الأغنية وراءها خلية إخوانية “نائمة” تستهدف إحراج السيسي بعد تصريحات ماكرون، حيث أكدت الأغنية بما لا يدع مجالا للشك، أننا مش بعيد عن أوربا ولا حاجة، وأننا زيهم عندنا موز ولبن وتفاح، وبالتالي ممكن يبقى عندنا تعليم وصحة، والأهم ممكن يبقى عندنا دم، لهذا خشي النظام من تحول فريق “شيما” الغنائي إلى حملة سياسية تترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فتم القبض عليها بسرعة، بعد توفر معلومة موثقة وصلت للأمن الوطني من مخابرات دولية صديقة، نبهتهم إلى حقيقة “شيما” كخلية ناعمة، فالحرف الأول من اسمها “ش”.

احتارت السلطات المصرية في فك الشفرة ومعرفة معنى حرف الشين، وفشلت كل الأجهزة والمستويات، فدعا الرئيس لاجتماع مجلس الأمن القومي، وطرح السؤال اللغز: حد فيكم يعرف “ش” تعني إيه؟

قال رجل الخارجية: شيرين، اللي شوهت سمعة النيل.

هرش الأعضاء رؤوسهم ولم يقتنعوا.

قال رجل الداخلية: شرعية، بتوع الشرعية.

استمر الأعضاء في الهرش، وفجأة نظر الرئيس للسقف، واستغرق في تفكير طويل، ثم فاجأهم قائلا: معايا رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ورئيس مراجيح الديمقراطية ومش عارفين “ش” تعني إيه؟

سأله رجل الدفاع:  فخامتك عرفت الشفرة؟

قال بغرور: أكيد طبعا، أنا طبيب فلاسفة وأجيبها وهي طايرة.

سأله الوزير متعجباً: مين؟

قال بكل ثقة: شفيق يا راجل.

عند هذه اللحظة انتفض وزير الداخلية، وأمسك هاتفه ليأمر قواته بالقبض على العميلة “شيما”، وبالمناسبة فإن الاسم بهذه الليونة مشتق من كلمة أجنبية تعني “العار”.

* مقال سيريالي جداً.. واقعي خالص.. بنكهة الثورة باللبن.. وطعم التفاح الملحوس.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه