السودان وإسرائيل .. قُبلة التطبيع السامة

 

في خطوة جريئة تقريباً لم يقدم عليها رئيس سوداني من قبل التقى رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعنتيبي في أوغندا، تحت رعاية الدكتاتور يوري موسيفيني، وكان اللقاء مفاجئاً وصادماً ومخزياً أيضاً إلى حدٍ كبير .

لم يشأ البرهان أن يصارح الشارع السوداني بمضمون الزيارة، أو حتى رغبته في التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني، وإنما تم الترتيب لها بشكلٍ سري، حتى كشف عنها الاعلام الإسرائيلي، من خلال تصوير الخرطوم كما لو أنها تهرول بخفة صوب تل أبيب، طلباً للخلاص.

مع الامارات:

اللقاء طبعاً تم بتنسيق كامل مع دولة الإمارات، وظهرت كذلك في الصورة السفيرة السودانية “نجوى قدح الدم” مستشارة موسيفيني بالمقابل، وقد لعبت دوراً في تجسير العلاقة بين الخرطوم وكمبالا بعد قطيعة، لكنها لم تكن الوحيدة، فيصعب أن يكون مدير المخابرات السودانية السابق صلاح قوش بعيداً عن هذه التطورات، بوصفه رجل أمريكا في السودان، وأحد أبرز الداعمين للتطبيع مع إسرائيل.

كان موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، قد أورد تفاصيل محادثات جمعت صلاح قوش ومدير الموساد  يوسي كوهين في ألمانيا مطلع آذار/مارس الماضي. وذلك على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، واصفًا المحادثات بالسرية، ودون علم الرئيس البشير وقتها. وكشف الموقع البريطاني وفقًا لمصادره العسكرية عن مؤامرة دبرها حلفاء إسرائيل في الخليج لتنصيب قوش رئيسًا للبلاد على خلفية الانتفاضة التي شهدها السودان، مشيرًا إلى خطة الإمارات والسعودية ومصر لتثبيت “رجلهم” في السلطة.

من المهم الإشارة إلى أن السقوط في حضن إسرائيل هو نتيجة طبيعية لاصطفاف المحاور العربية الذي اختارت الخرطوم أن تنتظم فيه، حتى قبل سقوط نظام البشير، فأنت لا تستطع أن تأكل مع أصحاب صفقة القرن في مائدة واحدة دون أن (توسخ يديك) لأن لقاء البرهان ونتنياهو كانت تنقصه فقط عاصمة جريئة تحتضنه، مثل كمبالا، فمعظم العواصم العربية تعيش العلاقة مع تل أبيب بشكل سري، وقد اختار السودان الإشهار أخيراً، ضارباً بتاريخ الخرطوم التي عرفت سابقاً بعاصمة اللاءات الثلاث” لا سلام لا اعتراف لا مفاوضات مع إسرائيل“. ضارباً بها عرض الحائط.

 لكن الغريب أن نتنياهو لم يلتق برئيس الوزراء عبد الله حمدوك، الممثل لحكومة الثورة، وإنما اختار رئيس المجلس السيادي، بكل رمزيته العسكرية، وهذا مؤشر يقرأ وفق تنازلات عميقة، منها الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، ومناهضة الاحتلال والتهجير القسري والطغيان، مقابل الحصول على مكاسب سياسية، مثل رفع السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، إلى جانب صعود المكون العسكري في المرحلة المقبلة على حساب المدنيين، وربما استنساخ سيسي سوداني، يقوم بخدمة ورعاية المصالح الغربية، وضرب الثورة والتطلعات الديمقراطية .

البرهان سوف يبتدر جملة تنويرات، تنويرات وليس مشاورات، مع القوات النظامية ومن ثم مجلس الوزراء، لوضعهم في الصورة، وهي خطوة أشبه بطلب الزواج بعد حصول الحمل. تصرف يجعل أسرة الفتاة في غاية الحرج ومكرهة على الموافقة، لأن كل شيء قد حدث مسبقاً ولا مجال للمناورة.

التطبيع مع إسرائيل ليس قضية شخصية خاضعة لرهانات المحاور العربية الخاسرة، ولا هو موقف انتقائي للتعبير عن مجموعة مؤيدة لـ(صفقة القرن) بالداخل، ولا هو ثمن لوعد زائف بفك الحصار عن السودان، هذا موقف دولة، يجب أن يخضع لنقاش عميق، وتحكيم صوت العقل والضمير، كما أنه، وهذه ملاحظة مهمة، لم يصدر من حكومة منتخبة شعبياً، ولا عن مجلسها التشريعي الذي ظل مجمداً، وإنما حكومة انتقالية محدودة الصلاحيات ولا يحق لها حرية التصرف في القضايا المصيرية والاستراتيجية.

دول التطبيع:

وقبل كل شيء فإن الموقف من إسرائيل موقف انساني وأخلاقي بالمطلق ضد الظلم والطغيان والانتهاكات، وهو موقف تأسس على مصلحة جماعية، وتقديرات سالفة، كانت من صميم الإرادة الشعبية الحرة، كما أن الدول المجاورة للسودان التي طبعت مع إسرائيل، مثل إرتريا وتشاد وجنوب السودان ليست أفضل حالاً، جميعها تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وبعضها يعتمد على تهريب البضائع من السودان، وهذا يجعل افتراض أن تقبيل يد إسرائيل سوف يغرقك في المن والسلوى، افتراض وهمي لا يسنده منطق، حيث تتخلى عن انسانيتك وعن إردتك الحرة بلا ثمن يستحق، غير تلك القُبلة السامة .

حتى الأن فإن مواقف القوى السياسية يبدو متماساً نسبياً، فقد أعلن المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي رفضهما لقاء البرهان ونتنياهو، ورفضهما التام لصفقة القرن، بينما ذكرت حكومة حمدوك من خلال الناطق باسمها “فيصل محمد صالح” أنها لم تحط علماً بالزيارة، وهذا يعني أنها مواجهة بضرورة إتخاذ موقف شجاع على الأقل، مثل رفض الزيارة وما تمخضت عنه، ومحاسبة رئيس المجلس السيادي الذي يمثل السلطة التشريفية فقط، ولا يملك الحق في اقرار السياسة الخارجية، وفقاً للوثيقة الدستورية.

 لكن أي من ذلك لن يحدث، لأن حمدوك جزء من هذه اللعبة، والتي يبدو أنها تسعى بشكل واضح، إلى وضع السودان تحت الانتداب العسكري، إلى درجة الإيحاء بأن ضباط المجلس السيادي، جاؤوا لصياغة عقد سياسي جديد للبلاد، ومن ثم الدخول في رهط حظيرة ترامب .

بالأحرى فإن السودان الذي كان يتقدم ما يعرف بدول الممانعة، صلابة وبسالة، بات اليوم، ليس قريباً من التطبيع مع إسرائيل فحسب، وإنما مسوقاً إقليمياً لصفقة القرن وسط الدول الأفريقية، وهى دول تحرص عليها إسرائيل، للخروج من مأزقها التاريخي، وتسويق بضاعتها العسكرية من الأسلحة، والحصول على الموارد المعدنية الرخيصة مقابل حماية الدكتاتوريات الحاكمة، ويعد هذا منتهى الاستثمار في الإجرام .

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه